Sunday, May 31, 2020

ترجمة نسخة مصغرة لمسرحية "ماكبيث" لويليام شكسبير (الفصل الثالث والأخير)







الفصل الثالث ..
(عندما تتحرك الغابة، سأموت!)

     وأول ما تبشر به ماكبيث عقب عودته من تلك الزيارة المضنية كان ماكداف لورد فايف والذى انطلق إلى انجلترا ليدرج ضمن جيش مالكولم، ابن دانكان البكر. وقد استقر الرأى بمالكولم مهاجمة سكوتلاندا وماكبيث، ومن ثمّ، يتحصل على الملك كرة أخرى. وقد نفرت عروق ماكبيث لدى معرفته بهذا الخبر اليقين وأطبق على حلّة ماكداف، أى قصره، واستباح حرمه، فذبح زوجته وأبناءه، و أنهى نسل أى أحد يتعلق بماكداف، فلم يحترم سائر اللوردات فعلته تلك، وأدانوه بها، وتحزبوا إلى حزب معاديه، بعضهم انضم إلى مالولم وجيشه، والذى احتشدت عنده القوة.

    وقد شرع جيش مالكولم يتحرك صوب اسكتلاندا. هؤلاء من خشوا ماكبيث، ولم يتجسروا على محاربته، تاقوا إلى فوز جيش الخصم خلسة. الجميع بغض ماكبيث، فأخذ ينفس على دانكان، هذا الذى يرقد بسلام فى قبره، الآن، لا شىء يمكنه أن يضر بدانكان. أما الزوجة، فإنها كانت رفيقته البئيسة الوحيدة خلال كل أفعاله المظلمة ولكنها لم تطق الحياة فى ظلال كراهية الجميع لها ولزوجها، فارتضت بالجحيم الأزلى، وانتحرت!

    وهكذا، تخلَّف ماكبيث بلا ونيس ولا مشاطر ولا حتى مناجى، لا أحد يحبه أو يهتم به، ولا حتى أحد يقدر على مشاركته الخطط الشيطانية. يأس ماكبيث من الحياة، واستولت عليه موجة عاتية من التألم، والاكتئاب. فَقَدَ رونق الحياة وتلوثت كل قطعة لمسها بسواد شرير، دفعه إلى مقت النفس، وتمنى لو خلص من تلك الحياة النجسة المدنسة!

     لكن، نبأ زحف قوات مالكولم بعث بفضلٍ من الثبات القديم إليه من جديد، وراجع نبوءات الأرواح الثلاث فى آذانه: أن ما من مولود لامرأة يمكنه المساس به ولن تدور عليه دائرةٌ حتى تأتى غابة برنام إلى دانزينان والتى يتقين من استحالة حدوثها! لذا، فقد احتجز نفسه محصنا بقلعته، وتلبث لأجل مقدم جيش الخصم. وفى يوم لا يُذْكَرُ له اسما، كان رسول ماكبيث يسعى ملتاث الأنفاس إليه، شاحبا بهلع، ترتعد أوصاله فبالكاد استطاع حديثا، قال أنه قد نظر شطر غابة برنام، وظن أنه قد رأى الغابة تطفق تتحرك.

( كاذب .. عبد .. )

    هكذا كان صوت ماكبيث ينطلق شاقا السكون متهدجا متحشرجا، عظم عليه الأمر للغاية:

(إن كنت كاذبا، لَتُعَلَقَنَّ على شجرة حتى تتضور جوعا، وإن كنت لست بكاذب إذًا، لا أبالى إن كنت أنا من يعلق على الشجرة ويترك للموت!)

    الكره والسخط ملئا قلب ماكبيث فأوغراه، ليس ناحية ماكداف، ولا مالكولم. إنما جهة المشغوذات والأرواح، لقد خدعوه!

(لقد لجمونى وجعلونى على المحك!)

    صرخ داخله:

(أنا لا أستطيع التحليق، لكن أستطيع أن أحارب هذا الأمر .. ترى من هذا الذى لا تلده امرأة؟! أحد يجب علىّ أن أهابه، أم لا؟! إن كانت الغابة بحق تتحرك، إذًا، ينبغى أن نأخذ عدتنا، ونخرج للوغى. نحن لن نستدبر، و لن نبقى هنا .. لقد تعبت، وأتمنى لحياتى النهاية!)

    وها قد تجلى جيش ماكبيث الصغير به على مقدمته، مارقا من القلعة لمقابلة جيش الآخر والذى أضحى قريبا للغاية من القلعة. وتفصيل حركة الغابة بسيط ويسير جدا. حينما توغل جيش مالكولم فى غابة برنام، أمر مالكولم -والذى كان قائدا جليلا عليما بالحروب وخدعها- كل جندى اقتلاع جذع شجرة ويحمله إزاءه حتى لا يقدر أى أحد على رؤية كم هو الجيش ضخما. وتلك الحركة للجنود بالجذوع، دفعت الرسول لأن يحسب الغابة تتحرك، وبذلك، كانت كلمات الروح محقة تماما. وقرعت الطبول. فالمعركة الحاسمة قد بدأت، و قوات ماكبيث قليلة العدد تبلى بلاء حسنا، يقطعون خصومهم إربا، تسمع أصوات سيوفهم البائدة ترن فى ميدان المعركة رنينا. وبعد فترة تحسب ضئيلة، كان ماكبيث قد بلغ مبلغا به ماكداف محاربا. ولمّا أبصر به، وردت إليه كلمات الروح الأولى التى حذرته من دائرة ماكداف، لورد فيف!

(من وسط الجميع، قد تجنبتك .. ارجع، فإن روحى قد شحنت بدماء لوردات ..)

    هكذا، صدح صوت ماكبيث، وكأنه بتلك السنة، سيصل إلى مقبض الخوف لدى الآخر، فيمسك به. لكن الآخر، تبلغ تلك الكلمات تبلغا، وحسم أمره، ليهدر بأنفة:

(لا أملك كلمات ، فصوتى فى حسامى -سيفى- .. )

    ومن ثمّ، تراكض كى يشن أولى الضربات لماكبيث، والذى كان يهزأ به صائحا:

(محاولة النيل منى كمحاولة النيل من الهواء .. إنك لن تقدر على ذلك .. فأنا أحمل حياة سعيدة، والتى لا يجب أن تُغَلَ عن طريق أى أحد مولود لامرأة!)

(لا تثق بهذا السحر ..)

    بذلك، أثبط هذا اللورد الشريف معنويات ماكبيث إثباطا، وهو يكمل فيما سيفه يهاجم بعنف، ويخترق حصون ماكبيث اختراقا:

(لم أولد لامرأة .. ليس بالطريقة الاعتيادية حيث يولد الرجال، لقد أخذت من أمى قبل الوقت المضبوط!)

    هنا، فقد نكثت القوة بوعدها مع ماكبيث، لتتسرب منه تسرب المياة من بين الأصابع المنفرجة. و فى خلال ثوان، كان ماكداف يفلح حقا فى إثخان ماكبيث بجرح غائر وماكبيث يقول بحكمة متأخرة متعقد الجبين:

(لا تصدق الأوراح يوما .. إنهم يخدعوننا بكلمات ذات معنيين، أنا لن اتقاتل معك ماكداف!)

(إذًا، لتعش .. ونحن لنعرضك كما يعرض الرجال الحيوانات الضارية، بإشارة تقول " الشرير ماكبيث " ..)

    ليصرخ ماكبيث وشريط حياته يمر من خلال مخيلته، يريه افضح الأفعال، وأشنع الأفكار، وأنكر الذكريات:
(أبدا .. رغم أنك لست مولودا لامرأة .. وغابة برنام تحركت إلى دانسينان، سأقوم بآخر محاولة!)

     وهكذا ألقى ماكبيث بجسده المجروح على ماكداف، وبعد مقاتلة شديدة البأس، كان ماكداف ينتصر على ماكبيث. وجز عنق ماكبيث بشراهة، أهداها إلى مالكولم الذى بات حاكما سكونلاندا، وأسعد هذا النبأ كل الشخصيات المرموقة، والشعب أجمع!
النهاية ..
بدأت فى الثالث من يوليو 2013، وانتهت فى السابع من يوليو 2013


ترجمة نسخة مصغرة من مسرحية "ماكبيث" لويليام شكسيبر (الفصل الثاني)





الفصل الثانى
(وصارت النهاية .. بداية!!)

     والتقط ماكبيث البلطة من يدها الممدودة، ومن فوره، عمد إلى حجرة الملك المعظَّم حيث كان يهنأ بنوم مريح. وفيما هو سارٍ هكذا فى خفى الليل الداجى، بدأت تتمثل فى عقله بلطة أخرى، اختلف حالها عن تلك التى بحوزته وإن تظل بلطة! كان مقبض البلطة موجها شطره، ودماء ما تسيل من نصلها.

(أيكون ما أراه أمامى هذا .. بلطة؟!)

    حاول اخترام تلك البلطة، لكنه لامس فراغا. فقد كان يخيل إليه وجود هذا السلاح الفتّاك، أنشأ يشعر بتعطل فى عقله، وشلت حركته، وهو يهمس:

(لا تستمع دانكان، إنه ناقوس النعى الذى يرن، ويفتدى بك إلى الجنة أو الجحيم!)

    وبخطوات وئيدة، كان ماكبيث ينسلّ إلى الصرح المحرم للملك. وبأعصاب ترسب عليها الران لبرهة، كان الملك صريعه، والروح المرفرفة عاليا، تلعن القاتل شر اللعنة. لف الصمت المقبض المكان، ما من ضجة علت، ولا شىء تنفس صارخا، مجرد صيحات بوم نعقت بالخارج. تهيأ له سماع صوت آخر يستغيث، يهتف، مدينا:

(لا نوم .. ماكبيث جنى على نائم ..)

    وتابع الصوت مصرحا:

(لا نوم .. جلاميس قتلت نائما، وكوادور لن تنام بعد الآن، ماكبيث لن ينام بعد اليوم!)

    لبثت اللايدى خارج مخدع الملك، تنتظر النبأ البيّن من زوجها، انتابتها الهواجس بشأن شجاعة ماكبيث. لذا كانت قلقة، ولمّا شاهدته منطلقا من الحجرة، صرخت بتأثر:

(زوجى!)

    ارتعش ماكبيث كدأب من يحتضر. لذا، دفعها منفضا عنه تلك اللمسة منها على ذراعه، وهو يزمجر بألم:

(لقد ابتغيت الغاية .. ونفذتها!)

    نظر إلى يديه الجانيتين بحسرة وتندم يستر كل انفعالاته، فكان يقبض على بلطتين، أنصالهما تنضح دماء!

(إنه منظر شنيع!)

    لكن تلك عديمة الرحمة، استنكرت ببرود:

(إنه لجبن حقيقى أن تصفه بالمنظر الشنيع ..)

    فمن وجهة نظرها، إن ماكبيث لم يقترف سوءً اللهم إلا اعدام ذلك الرجل العجوز، ليغدو ملكا! لكن اختلفت النظرة لدى ماكبيث، فالقتل إنما هو ضد مبادئه، ومخالف طبيعته النقية. إنه -يؤمن- قد استباح لنفسه القضاء على براءة نائمة، إنه قتل سمعته، بل عظم عليه الأمر، ليعتبره قد خنق روحه هو! إنه .. لم يعد مرة أخرى بشريًا! كان فى حال يرثى له من الاكتئاب المسيطر. ولهذا، ظلت البلطتان فى يديه، فلمّا وقع بصرها عليهما، عقبت بسرعة:

(لماذا أحضرت تلكما البلط معك من الحجرة؟!)

    لتستحضر قوتها صارخة:

(اذهب وضعهم بجانب الحراس!)

    لكن ماكبيث، صاح بخيبة:

(لن أذهب إلى هناك ثانية، أخشى النكوص إلى هناك فأشهد على جرمى غير المغفور، لن أتجسر على رؤية الملك الميت مرة أخرى!!)

    تعجبت بغضبة حارقة، وهى تحسب به العزيمة المحجمة، وانتزعت البلط بنفاد صبر، وهى توضح:

(اعطنى البلط، الميت والنائم لا شىء إلا صور!)

   غايرته وحيدا. الآن، فإن أياديها قد طالها الإثم ذاته:

(والآن، إن أيادي تلونّا بنفس لونك .. لكننى خجلة أن أرتدى قلبا أبيضا!)

   هكذا قالت وهى تتمعن فى يديها اللذين تفركهما ببعض:

(بعض الماء تنقينا من هذه الغاية!)

    وحلّ الصباح، ومعه أعلن الخبر الصاعق، عثر على الملك مقتولا! أبدى ماكبيث وزوجه المصون المضض والحرقة على رحيل الملك، وأن الحراس هم من ارتكبوا هذه الجناية. لكن، لم يكن الشعب بالجائر غير الحسيب، بل إن جل الشعب إن لم يكن كله، أجزم أن ماكبيث هو المجرم الحقيقى، فهو من ملك السبب الأحق لقتل الملك أكثر من الخدم! فيما ابنا الملك، فرّا من القلعة بسرعة برق ساطع فى السماء، فالأول "مالكولم" نفر إلى إنجلترا، والآخر "دونيالبيان" إلى أيرلندا.

    حينما انقشع الولدان من سماء سكوتلاندا، وهما من يجدر بهما أن يتسلما مقاليد الحكم، صار ماكبيث هو الملك. الآن، نبوءة الساحرات، بحذافيرها قد تمت له، والحبة التى زرعنها فى قلب ماكبيث قد نمت وانتشرت فى هذا المكان المظلم: إنه ارتدى التاج، واعتلى العرش. لكنهما مع ذلك، خضعا لتفكير جهنمى آخر، فلم ينسيا قط الكلمات الأخرى للساحرات، لقد قلن أن ربما سيكون ماكبيث الملك، لكن أبناءه لن يكونوا ملوكا من بعده؛ بل أبناء بانكو هم من سيسطون على الملك من بعده. هذا الهاجس، مع الآخر الذى يذكرهما دوما بفعلتهما المنكرة التى ستجعل أبناء بانكو دوما الأفضل، حمّى الوطيس فى قلبيهما. فوقف رأيهم فى النهاية أنهم سيتخلصان من بانكو وابنه.

     عقد الزوجان عشاء كبيرا، كل الشخصيات المرموقة فى المجتمع تناولوا دعوة ذلك العشاء، ومن ضمنهم بانكو وابنه فليانس. إلا أن القتلة المجرمين كانوا على الطرقات التى كان بانكو ليسلكها إلى القلعة. و قد أعطاهم ماكبيث الأوامر أن يفنوا بانكو وابنه. وقد رافقهم التوفيق فى تنفيذ الأمر على بانكو، إلا أن أخطأهم التوفيق فى ابنه الذى قدر له الاله أن يهرب. وخلال العشاء، كانت الملكة ذات أناقة مبهرة، ولباقة فاتنة، أثارت إعجاب كل الموجودين. وماكبيث يميل على ذاك فيحاوره بشأن أمر من الامور، ويجنح على آخر، فيطيب خاطره. وفى كل الحوارات، تنكَّه صوته بالسعادة، وأطلعهم أن كل مهم فى اسكتلاندا، موجود فى العشاء عدا صديقه الحميم بانكو والذى يأمل أن يكون متأخرا لكن يحضر قريبا.

    ولعجبه، فيما كان يبوح بخوالجه المداهنة المنافقة، لاح طيف صديقه بانكو قادما إلى الحجرة، وتقعد المطرح الذى كان ليملأه ماكبيث، وبرغم شجاعة ماكبيث، إلا أنه إزاء رؤيته لهذا الطيف، تلاشت كل ما به من قوة، واربد وجهه ببياض ارتعاب، وتصلب واقفا، وعيونه لا تحيد عن الطيف. همست الملكة لدى رؤيته بهذا الشكل المريب، وابتسامة جميلة مرسومة على وجهها للمدعوين المتسائلين:

(لماذا تقوم بتلك الانفعالات؟ عندما يتم لنا كل شىء .. لتنظر ولو على كرسى عال ..)

    أما اللوردات الآخرون، فلأنهم لا يقفون على أثر هذا الطيف، فحسبوا أن ماكبيث إنما يشغف بالنظر إلى كرسى خاوٍ. لكن ماكبيث، ما عبأ بأى من تلك النظرات المستهجنة اللافة إياه، واستبقى الحوار مع الطيف، وكانت كلماته غاية فى الغرابة، لولا أن احتفظ بمغزى. لم تكن الزوجة ولا غيرها ليضمِّن هذا الطيف إلى لائحة الأشياء المرئية، إنما أتى هذا الطيف بدعوة لأجله فحسب، لأجل ماكبيث لا غير. وظعن الطيف بهدوء مثلما تهادى قادما، وتشافى ماكبيث، ورجعت البسمة تشرق على ثغره، لكن ليس طويلا. انتهى الحفل، ورحل الضيوف محتارين، فماكبيث سرعان ما تداعت حالته، وصارت الملكة حزينة، ومثقلة القلب بالهموم الكثيرة. تمتم بمرض:

(إنه ليكون هناك دماء .. هكذا يقولون .. والدماء سيكون لها دماء!!)

    ولأن الملكة فزعت من خاطرة أن يكتشف اللوردات أن بانكو قد لاقى حتفه، كانت تطلب من المدعوين، والأسف يغشاها من أعلاها لأسفلها، الرحيل لأجل مسمى! وأعلنت أن تصرفات زوجها غير المعهودة إنما يرجع سببها إلى مرض يعانيه أحيانا. لكن هذا التصرف غير المبرر، جعل اللوردات الحذاقى، يدركون أن ماكبيث يحمل فى طيات قلبه سر، وإنه لسر مخجل مشين. اكتظ عقل ماكبيث بمختلف المخاوف، وتلاعبت به عقارب الفزع، زارته هو وصاحبته فى الفراش الكثير من الأحلام، أضغاث أحلام مهلكة، طاحنة، غالبا ما يستفيقان منها محتضرين!

    توترت أعصابهما لدى موت بانكو وهرب ابنه، إنما الآن يريا فليانس قد أصبح أبا لأطفال سيصدون أبناءهما هما عن التملك بالملك. ورست سفينة تفكير ماكبيث مؤخرا عند مرسى أهمية إيجاد الساحرات من جديد، فيسألهن عن أسوأ ما يمكن أن يدور عليه. وبحث مطولا، فجاب الأوطاد، و صاد فى المحيطات، حتى عثر عليهن أخيرا فى كهف نائى، يعتكفون على أدواتهن، بهيئات مثيرة للقشعريرة، تستك لها الآذان، و تقف لها الشعور. كنّ يستدعين أرواح الموتى، والذين ليتمكنوا من اخبارهن بالمستقبل!

(تحدثن بالمزيد .. للآن، أنا منحنى كى أعرف بأسوأ الطرق عن الأسوأ!)

    إنهن كنّ فى انتظاره، أجل ، تماما كما كنّ فى انتظاره فى المرة المنصرمة، لقد علمن بقدرتهن السحرية أنه ليعود من جديد! بدأن يخلطن أشياء فظيعة معا فى إناء كبير. بدأن بالوطاويط، والثعابين، فالنباتات السامة القاتلة، وعين بومة، ولسان كلب، مع ساق سحلية، وجناح بومة، وإصبع طفل ميت. من ثمّ، طفقن يحرّقن تلك الخلطة حد الغليان، ولمّا حدث ذلك، أنشأن يبردنها، بدماء قرد.

(الضِعْفَ، ضِعْفَ المصائب..)

    وأخذن يضربن الحجرة المظلمة جئية وذهابا بغية إرهابه وفيما هن يفعلن هكذا، كن يقلن أنهن على مقدرة لجعل الأرواح الميتة تجيبهن على أسئلتهن. استفهمن من ماكبيث إن بغى إن يرددن عليه بأنفسهن، أم الأوراح؟! لم يهلع ماكبيث حتى تلك الساعة من رؤية تلك الأشياء المخيفة، فتصلبت ملامحه، وتكورت قبضة يده، وجحظت عيونه لخطورة الموقف وهو يطالب بإصرار:

(أين هى تلك الأوراح؟! دعينى أراها ..)

    ومن فوره، كانت ثلاثة أرواح قد مثلت أمامه بتحدِّى فاقد الحماسة، او الحياة، مجرد هلام. أولى الأرواح، كانت على شكل رأس وذراعين، وبصوت غير بشرى باهت حد التلاشى، كانت تطبق على أنفاس ماكبيث من موقعها، وتقول:

(ماكبيث، ماكبيث، ماكبيث، أوعى لماكداف .. لورد فيف ..)

     شكرها ماكبيث، فقد كان بدوره يخشى من هذا الماكداف، لورد فيف، لكنه لم يبدِ اى من تلك المشاعر على سيماءه، وأبقاها فى شغافه حية ترزق. والثانية، فكانت طفلة ملخطة بالدماء، ذات ملامح غامضة، وشعر ملتصق بغرى الدماء على الوجه، والشفاه المتيبسة بيضاء كالرخام، والعيون لا تحدد اتجاهات، مجرد تدور فى مقلتيها بغير هدف! فتهمهم:

(ماكبيث .. ماكبيث .. ماكبيث .. كن دمويا، أقرعا، مصمما .. لأن لا أحد مولود لامرأة يقدر على أذية ماكبيث!)

    استرعت تلك الإجابة على ذهنه، ليصرخ مخافة انقشاع تلك الروح قبل الرد:

(إذًا، لماذا علىّ أن أخشى من ماكداف؟!)

    لكنه، استعاد اتزانه بعد تنحنح، وجالت عيونه على الساحرات النافدات الملامح، واستقام واقفا يعدل من وضعيه السيف فى حزامه، وكشأن من سيدبر حاله، كان يقرر:

(لكننى سأنتبه إلى أن أكون بأمان دوما .. إنه لن يحيى!)

    ومن العدم، كانت الروح الثالثة، والتى كانت فتاة جميلة، ذات تاج مكلل رأسها المكسو بشعر أشقر ذهبى هزيل، وتقبض على جذع شجرة، وتطالع ماكبيث بخيلاء ذكرته بالآثام التى حاقت عليه:

(ماكبيث لن يُنهزم حتى تتحرك غابة بيرنام فى تل دانسينان إليه ..)

    ليصيح ماكبيث، والكبرياء يسجيه:

(وهذا لن يكون ابدا!)

    ليتابع، وابتسامة فخر مختالة تزهو على وجهه، فتجعله أكثر وحشية وأقل إنسانية، وتزيد من إجرامه:

(كلمات جميلة .. جيدة .. من يقدر على تحريك غابة! إذًا، لأعيش بمقاس عيشة إنسان طبيعى، ولأموت موته غير عنيفة .. ما أسعدنى .. لكن ..)

    وانطرحت الابتسامة أرضا، فاختفت بسرعة ظهورها، وسؤال آخر ينشب مخالبه:

(لكن لدى سؤال آخر .. أفعلا يمكن لأبناء بانكو أبدا أن يحكموا فى تلك المملكة؟!)

    وفى صوت واحد، بنغمة معذبة واحدة، وهتاف يجلجل يضم الأرواح الثلاث:

(ابحث ولن تعرف أى شىء آخر!!)

    وبين إغماضة جفن وانتباهته، كانت تلك الأرواح تسلك سبيلا خفيا، لا ترجع منه قط، فتتبدد كأن لم تكن. واستحال الجو مشحونا بموسيقى غريبة، موسيقى مزعزعة للثقة، ومهلهلة للإرادات. وثمان ظلال كالملوك، اجتازوا ماكبيث بزهو، ويذيلهم بانكو، وكان يقبض على مرآة حيث لاح منها المزيد من الظلال الشابهة لملوك. ابتسم بانكو لماكبيث، مشيرا إلى تلك الظلال، وهنا، تعرَّف ماكبيث عليها: أنهم ذرية بانكو، والذين ليمسكون بزمام الأمور فى اسكتلاندا من بعده. وكما الصواعق التى تظهر فتختفى، ولا تحديد لوقت بين الظهور والاختفاء، كان كل شىء يزول ويفنى. ومن هنا، لم يبقَ لماكبيث إلا الوساوس والغلائل كى تصم روحه.

Wednesday, May 6, 2020

ترجمة نسخة مصغرة لمسرحية "ماكبيث" لويليام شكسبير (الفصل الأول)



















Chapter One

The Three prophecies

"الفصل الأول"

النبوءات الثلاث ..

    فى الوقت الذى به كان دانكان ملكا لاسكوتلاندا، عاش لورد عظيم يدعى "ماكبيث". كان ماكبيث من نفس السلالة التابعة للملك، ذائع الصيت بشجاعته المقطوعة النظير بالوغى –أى الحرب-، وقد كان لتوه قد ظفر فى معركة ضد جيش من نورواى. وبينما كان اللواءان "ماكبيث" و"بانكو" عائدين منتصرين من تلك الحرب، سافرا خلال مكانٍ موحشٍ، فأبصرا بثلاث كائنات عجيبة الشكل، شُبِّهَ لهما أنهن إناث، لكن الواقع أنَّ أولئك النسوة، نبتت لهن لحى. وقد كُنَّ ذوات جلد جاف، وارتدين ملابس غريبة. الحق أنهن لم يناظرن أى كائن على الأرض بتاتا. حادثهن ماكبيثُ، لكن ذاك دعاهن إلى السخط. فوضعن سباباتهن إزاء شفاههن الرفيعة لكأنهن يخبرنه أن يتحرى الصمتَ المطبق. ومن ثمّ، تقدمت واحدة تلو الأخرى، ليرحبن به:

(الجميع يشير إلى ماكبيث، يشيرون إليك، لورد جلاميس!) 
    استرعت الكلمات ذهن ماكبيث إلى إدراكهن اسمه، واشتد به الذهل حينما جاءته الكائنة الثانية تهتف:


(الجميع يشير إلى ماكبيث، الجميع يشير إليك، لورد كودور!) 
    لم يكن ماكبيث بلورد كودور تلك. فيما، جرجرت الثالثة أقدامها جرا لتجابهه معقبة:


(الكل يشير إلى ماكبيث، والذى ليصير ملكا من هنا أبدا ..) 
استشاط ماكبيث عجبا ودهشة، بتلك الكلمات المريبة، التى تخترق الغيب فوق السحب العالية، فإذ به يتوسل توسلا لهذه الكائنات:


(إن كنتن تطلعن على حبات الوقت، وتقلن أى الحبات ستنمو وأيها لن تفعل، إذًا، تحدثن إلىّ!) 
     لقد فقه إلى استحالة كونه ملكا طالما الملك دانكان موجودا على قيد الحياة. توجهت الكائنات إلى بانكو، و تباعا كنّ يشهرن الكلمات اتجاهه، فإذ بالأولى تدلى بأول نبوءة:


(لتكونن أقل شأنا من ماكبيث، لكن الأعظم قدرا ..) 
     فالثانية، تجهمت، ترهبت له، وهى تعترف:


(لن تكون سعيدا جمّا، لكنك تظل الأسعد ..) 
     وإذ بالثالثة، بهذه النظرة الثاقبة والصوت الخفيض الخارج عن المألوف، وأياد ترتجف من هول المصاب:


(أبناءك ليصبحنَّ ملوكا بيد أنك لن تصبح ملكا!) 
    قفز الغضب إلى عيون ماكبيث، فتنفر العروق وتتسارع دقات القلب بجنون، وخاطب أولئك المهووسات:


(ابقين أيتها المتحدثات الخرقاوات، أفصحن عن المزيد!) 
    لكنهن لم يستجبن لهذا الطلب مستهجنات من طاقة هذا المحارب الصلدة، رغم أنه لا يجاريهن علما ومعرفة، وفى غمضة عين، كنّ سرابا يشيعهن ماكبيث وصديقه بأعين مشدوهة، وتيقنا فى تلك الفينة من هويتهن: أنهن ساحرات شمطاوات. انتصب كلاهما فترة، يتذاكران تلكما الكلمات الناضحة بالغرابة التى ألقيت عليهما. ولِغَرْوِهِمَا الذى استحوذ عليهما، كان بضعة رجال قادمين باسم الملك المبجل، يطلعون ماكبيث بالخبر الصاعق، أن الملك قد أرقاه إلى لورد كوارد!


(ماذا؟ أيمكن بحق الشيطان أن يكون هذا هو الحق؟!) صرخ بانكو .. 
     لكن عقدت الفرحة لسان ماكبيث، فلم يتوصل إلى إجابة، بل تصلب جسده لبرهة، و أفكار تنحاز بلا إرادة إلى محتوى النبوءة الثانية الخاصة به، إنه ليصبح ملكا إذًا. لو أن نبوءة قد تحققت بحذافيرها، فلماذا لا تكون الثانية بدورها فى نفس السياق؟ شرعت الأفكار السوداوية تخطو إلى عقله فتشينه. صارع طويلا كى يطرد تلك الخواطر الشيطانية عن غزوه، وإن لم يفلح، ورد على أعقابه خائبا، واستطارت به هذه البلابل محتلة جأشه حد الصميم. عنى بهز رأسه بقوة، علّ البلابل ترتج، وتتلاشى، فأخفق، فاختلى بها فى نفسه:


(لو أن الحظ ليتوجنى ملكا، فلماذا لا يتوجنى بلا ضجة؟!) 
     وفى أعماق هذا القلب المتقن الصنع فى هذا الصدر العريض الواسع، كانت الأمنيات تخط بنفسها على جداره أن يمسى ملك سكوتلاندا، كما باحت النبوءة الثالثة. تحول ماكبيث إلى صديقه بانكوك :


(ألا ترجو أن يكون أبناءك ملوك سكوتلاندا؟ الآن، ما أفضت الساحرات إلىّ أنه سيحدث، فقد تم بالفعل!!) 
(أحيانا تقر الساحرات بأشياء لدفعنا لعمل الشر!)


     هكذا أجابه بانكوك بحكمة طاهرة، تسطو على قلبه نقى السريرة. لم يكن ماكبيث ليصغى لمثل هذا التحذير الأخوى الصديق، وإنما صوَّغه فى عقله انه مجرد الترهات بعينها، ونازعته الوساوس لأن ينساه، قد تغلغلت به كلمات الساحرات، بتنمق، ولم يجتثها بأى وسيلة من الوسائل. ومنذ ذاك الحين، وإنما يراوده فحسب خيال ذلك اليوم حين يختال مسترخيا على أريكة الملك، ويَدعِى له فى جميع أنحاء البلاد باسم الملك .. الملك ماكبيث. 
    كان لماكبيث زوجة. تلك الزوجة التى ذكر لها كل ما جرى له من مقابلة الساحرات وأقاويلهن، كذلك عن الأشياء التى أصبن فى تكهنها، والتى دارت له حقا على أرض الواقع. وكانت تلك الزوجة دوما ما ترغب فى إصباحها هى وزوجها من العظماء، لكنها لم تبالِ يوما بالسبيل المسلوك للعظمة. دست كلماتها إلى آذان ماكبيث أنه لن يتقعد على أريكة السلطنة ما لم يمت الملك. ولأن ماكبيث كان مفطنا إلى مغزاها، فكان يتعنت، يرفض، ويعرض عن هذا القرار المبطن الذى تلح به عليه!


    وفى إحدى الأيام، قدم الملك فى وفادة ماكبيث، وبرفقته ابنيه "مالكولم" و"دونالبان" مع عدد غفير من الخفر. كان هذا القصر العتيق، مبنىّ فى موقع مريح جميل، مشرف على مناظر آسرة للألباب. وفى هذا مدعاة لغبطة الملك، والذى ضم الدعة إلى كنفه فيه. وكان الأحرى بسعادته، هى تلك المعاملة القيّمة التى كانت اللايدى ماكبيث تتفنن فى تقديمها له. قد امتلكت اللايدى ماكبيث القناع المرصع بالجواهر والمحلى بما لذ و طاب من رقة وعنفوان، تأرن وتبتسم، تحب، وتحزن فيما وراء القناع كمنت الحقيقة الشنعاء: تلك الحقيقة التى تهفو بها إلى توسل كل الدروب لأجل الإجهاز على الملك. امتلكت تورد الوردة لتخفى سم الأفعى. وتحلت بتعنت العفيفة، لتكتم شهوة الفاسقة. هكذا كانت اللايدى ماكبيث. 
    خلد الملك دانكان إلى مخدعه مبكرا فى تلك الليلة نظرا للإعياء الذى شمله من طول الرحلة، مع خادمين، يستلقون فى نفس الحجرة أمنا وسلاما. وقبل ذهابه، كان قد أهدى اللايدى ماكبيث هدية من الماس. وانتصف الليل، كانت الدنيا تتوارى بعباءة ساترة من السواد، فيما سقط القناع المخبىّ، ومعه استفاقت اللايدى ماكبيث. هذا لو كانت بالفعل أدت دور النائمة حد الانغماس. وبشمعدان به ثلاث شمعات ضخمة، كانت تنفرد بنفسها، وتكتب على صفحة هذا العقل المدمر بريشة الشيطان خطة لا تغتفر لنقل الملك إلى الرفيق الأعلى.


     ولم تكن تلك السيدة المتأنقة، ذات الأظافر المنمقة، والسحنة الرقيقة لتعقد اتفاقا مع الشيطان إن لم تكن تعرف بسجية زوجها. فقد كان ماكبيث، شديد الطيبة والإشفاق، ولا يطاوعه قلب كى ينفذ تلك المخططات الخرقاء. أدركت شغفه وطموحه كى يستولى على عرش السلطان، لكنه بذات الوقت، كان جد أمين لأن يقصى تفكير القتل عن باله كى يصل إلى تلك الطموح. لذا، أمسكت ببلطة، وبخطى حثيثة، كانت تدلف إلى حجرة الملك. ولم يفتها أمر الخفر، فكانت قد أسرفت فى إمدادهم النبيذ المسكر، كى تلطش أذهانهم، فلا يديروا شؤون الحماية بالشكل المطلوب. 
نعم الملك بسبات عميق، عندما تفرست به اللايدى، فأحدقت بلمحة ما، ذكرتها بوالدها. وعلى إثر ذلك، أخفقت فى شرها متقهقرة. بارحت الحجرة، وعرَّجت على غرفتها هى لتعثر على زوجها والذى كان يقنع بانعدام الأسباب كى يطبق على الملك.


(إنه هنا، يثق بى ثقة مضاعفة .. أنا رجله الطيب، وكل اهتمامه حاليا، والاثنان سببان ضد هذه الغاية الحمقاء. وأنا كمضيف له، فلا بد أن يصفق الباب فى وجه القتلة، وليس أن يحمل السكين بنفسه!) 
    وبهذا التفكير الصائب، كان ماكبيث، يسترجع رشده عازما على ألا ينطلق بعيدا فى تفكيره بشأن قتل الملك. لكن اللايدى كان لها منالا جيدا من القوة، ولم تغير رأيها بسهولة. حضرت بحثا عنه، بنظرات مفترسة ضارية ووجه ممتقع، وجبين يندى عرقا. حاول ماكبيث تجنب تلك النظرات الثاقبة، ليسائلها بنزق:


(لماذا غادرتى حجرتنا؟ إننا لن ننجز شيئا آخر فى هذا العمل!) 
    التفتت بعدما كانت توليه ظهرها، وعيونها تنطق شررا لأجل هذا الجبن والاحجام اللذين ألمّا ببعلها:
(أنا أجرؤ على فعل كل ما يفعله الرجل، والذى يستطيع أن يقوم بأكثر منى، لم يخلق حتى الآن!)
    ومن ثمّ، تنهدت على تلك الحدة الصافقة التى خاطبت بها زوجها العزيز، فانحنت عليه تحت أحداقه الجامدة. ولثمت يده بأسف، قبلما تشرع فى حوار آخر، تظهر له به جوانب كثيرة وأسباب أكثر تفسيرا لأهمية استمرارهما فى تلك الخطة. صورت له كيف أن الأمر بسيط، وقريبا لينتهى زمن القتل تماما، وبذلك أنهما سينالان منصب الملك والملكة لبقية حياتهما. ولِتربِى فى طمأنته، كانت تخبره بيسر الإيقاع بالخفر السكرى على أنهم القتلة المنادى بهم للعدالة.
    وأمام خوار عزيمته، كانت تطعنه بهذا الفتور الذى به، والضعف الذى لا يجعله حقيقا ليكون لوردا ولواء فى الجيش. وفى النهاية، كانت تصفق لنفسها سرا على النجاح الذى حققته بتغيير دفة رأيه، من اليمين إلى اليسار، من الأبيض إلى الأسود، وتلطيخ هذا النقاء بالدماء، وأعطته الحافز الأخير لأجل تنفيذ تلك الجريمة .. بنفسه!