أخصِّصُ هذا المنشور بأسرِهِ للتغزُّلِ فى شخصية روائية
أراهَا من أروَع ما قرأتُ…. إنَّها المحامية المصرية المغتربة فى باريس….
"رنيم شاكر"! إنَّها البطلة الثانية لرواية "غربَة الياسمين"
وامتدَّتْ إلى رواية "أنْ تبقَى" وأخيرًا متواجدة بقوَّةٍ فى رواية
"ياسمين العودَة"؛ من وحي قلم الكاتبة التونسية خولَةْ حمدِي….!
لهذا من لم يتسنَّ له قراءة الروايات الثلاث (بالنسبة
للرواية الأخيرة فلن أذكرها باستفاضة لأني نفسي لم أنهها لكنِّي سأذكر عرضًا أمور
موجودة فى أول عشرين أو ثلاثين صفحة) فأرجو تجاوز المنشور إذ به حرق للأحداث…!
.
.
.
.
فى البدء، ينبغي الاتفاق أنَّ الكاتب لا يتماهَى مطلقًا
مع شخصياتِهِ مهمَا كانَتْ؛ إنَّ الكاتب البارع هو القادر على أنْ يستعرضَ حيوات
شخصيات بعيدة كل البُعْدِ عنه وعن قناعاتِهِ لخدمة فكرتِهِ. فى النهاية الكاتب لا
يظهر إلا فى معالجتِهِ وفى مصير حبكته الأدبية. لهذا، فمن الحكمة انتقاد الشخصية
مع تفهُّم الفارق بينها وبين الكاتب؛ ومن السذاجة إدانَة الكاتب باسم شخصياتِهِ.
من يمكنُ الادعاء أنْ نجيب محفوظ كانَ أيًّا من "سعيد مُهران" أو
"رؤوف علوان" فى رواية "اللص والكلاب"؛ أو "سيد عبد
الجوَّاد" فى الثلاثية؛ أو غيرها؟! وكمْ من كاتبٍ ألَّفَ شخصيات مُلْحِدَة
فقدَتْ إيمانها بالله وبُغيته من كتابتها أبعد من مجرد الترويج للإلحاد؟! وقِس على
ذلك الكثير....!
رنيم شاكر.... سأعترفُ اعترافًا صغيرًا: مجرد رؤيتي
لاسمها فى الروايات الثلاث كانَ يجعل عيني تضوي وتبرق سعادًة، وأعلمُ أنِّي على
موعدٍ من وجبة روائية دسمة...!
اتهمَ البعض الكاتبة أنَّها تستخدمُ هذه الشخصية
استخدامًا سياسيًا من أجلِ الانتقاص من شأنِ المصرياتِ؛ أو لتلقنها عبارات تعبر عن
قناعة الكاتبة حول الشباب المصري، وأنَّها بها أساءَتْ لمصر!
لن أناقشَ كل هذه الأمور، لأن مجرد استيعاب جزء
"عدم تماهي الكاتب مع شخصياتِهِ" سيسقط هذه الاتهامات التي ليس لها أساس
من الصحة. وسأركز على جانب آخر.... رنيم بالفعل نموذج مشرِّف للمرأة المصرية؛ ومن
أرادَ أنْ يماهي بينها وبين خولة حمدي، فأعتقد أنَّ هذا لا بد من أنْ يكونَ مثار افتخار
لكلتيهما....!
رنيم، لعل الكاتبة توصفها بأنَّها "بدأَتْ سطحية
النظرة وتعمَّقَتْ على مدار الروايات حتَى باتَتْ ناضجةً"؛ ولكني أعتبرُها
منذ اللحظة الأولَى وهي شابة معطاءة إلى أقصَى الحدود، محبَّة إلى عنان السماء،
أخطاؤها ضخَّتْ فى شرايينها الحياة. أجل، لعلها أخطأَتْ حينما أحبَّتْ
"ميشيل" الفرنسي، لكن هذا الحبّ وتضحيتها بإحدى كليتيها من أجلِ
إنقاذِهِ من الموت المحقق، كانَا يعنيانِ أنَّها إنسانة تعطي بلا مقابل وبلا حدود؛
كما أنَّها متفائلة. لقد تفاءلَتْ أنْ ميشيل سيقدِّرُ حبها ويتحوَّلُ إلى الإسلامِ
ويقترنُ بها...!
إنَّها امرأةٌ تؤمنُ بالحبِّ؛ وليس خطأها الكامل أنْ
كانَتْ مُحاطَة بانتهازيينِ يستغلُّونَ حلمها للوصول إلى مآربِهم الدنئية. والدليل
على أنَّ عقيدتها فى الحبِّ لم تكن بهذا السوء، أنَّ "ميشيل" هذا فى
منتصف الرواية، قد عادَ إليها طالبًا الودَّ من جديد على أنْ ينفذَ شروطها جميعها
وأولهم التحول للإسلام من أجلِ التزوُّجِ منها. لكن طبعًا فى هذا الوقت، فقد
مرَّتْ بتجربة جعلتها تحترمُ قلبَها ولا تولِّيهِ إلا لمن يستحق ولا يجرحها ولو
مؤقتًا.
علاقتها بُعمَر الرشيدي منذ ألفها إلى يائها، تنمُّ عن
أي شخصية مميزة كانَتْ. فى الوقت الذي هجرَه الجميع، وحاولَ الكلُّ أنْ يحبطوها
ويستفزونها للإيمان بضعف موقفه فى القضية، ثابرَتْ، بل ومنحَتْه الأمان العاطفي
الذي يحتاجه بالضبط فى هذه الظروف الصعبة. بالنسبة إلى إذا كانَ قد أحبها أم
كانَتْ الهشاشة النفسية التي يمرُّ بها؛ فعلى جانبها هي وحتَى الرمق الأخير، لقد
أحبته بشدَّةٍ وكنتُ متأكدة أنْ لولا مسارات الحياة المفروضة عليهما، لنالَتْ
محبته الخالصة.
رنيم ليست شخصية راكدة مملة، بل إنَّها شديدة الحيوية،
صراعاتها الداخلية (الكامنة فى الفارق الشاسع بينَ ما تعطيه وبين ما تحصل عليه؛ وحتَى
فى قصورها فى الدين) والخارجية (أهلها على وجه الخصوص الذين كأهالٍ عديدون، لا
يعبأونَ مطلقًا إلا فيمَ يؤثر عليهم وحدهم) تجعلها امرأة حقيقية مجسَّدة قريبة من
كلٍّ منَّا. الشخصيات المثالية -مع احترامي لها- لكنَّها تثير الاستفزاز أحيانًا
فى مدَى انسجامهَا مع الحياة ومع الدين بلا معوقاتٍ إلا قليلًا. فى الواقع لا أحد
منَّا مثالي أبدًا؛ والله عليمٌ بذلك وإلا ما خلق "الذنب"
و"التوبة". رنيم لم تكن مثالية؛ لكني أراهَا "إنسانة"
جسَّدَتْ مقولة "الدين المعاملة"؛ وكانَتْ نموذج ممتاز للمسلمة.
مع "عمر الرشيدي"، لا أحد ينكر حجم التضحياتِ
التي قامَتْ بها؛ لقد ضحَّتْ به من أجلِهِ فى نهاية رواية "غربة
الياسمين". رحلَتْ تنفيذًا للصفقة التي أبرمتها مع أبيها؛ رحلَتْ لتعودَ إليه
وحده دونَ أنْ تدركَ المفاجآت التعيسة التي كانَتْ فى انتظارِها مع أهلها. رحلَتْ
بعدَ أنْ كانَتْ الوحيدة التي فكَّرَتْ فى إعادَة وجهه إليه بالمال الذي تركته له.
رحلَتْ وكلها إيمانٌ فيه وعلاقتهما وفى الحياة القادمة.
مع "نادر" فى رواية "أنْ تبقَى"؛
لقد ظلَّتْ المحامية المتفانية، وإذا كنتُ أتذكرُ جيدًا، فقد أعانته كثيرًا فى
قضية "عمر"... هذا غير تصرفها مع "ديانا" زوجته رغمَ اختلاف
الديانات والجنسيات؛ لقد كانَتْ عضدها فى إيجاد ابنها فى الجزائر. تركَتْ رنيم
عملها لاصطحابها إلى بلدٍ تبعدُ آلاف الأميال عن بلادها ليس لشىءٍ إلا لأنَّها
تراه جانبًا إنسانيًا لوظيفتها كمحامية حامية لموكليها. رنيم تعطي أكثر من المطلوب
بكثير..!
ثمَّ مع "خليل نادر" أو "دانيال" فى
رواية "أنْ تبقَى" أيضًا. لا أعرف لِمَ يهاجم العديدون الرواية أنَّها
طويلة وقضيتها غير واضحة رغمَ أنَّها بازغة بزوغ الشمس. الرواية عن
"الهوية" بالنسبة لمن أهلوهم من قوميات وديانات مختلفة ويعيشون تحتَ
لواء العَلَمْ الفرنسي. دانيال هو ابن "نادر"؛ الذي عاشَ طيلة عمرِهِ لا
يعرف عن أبيِهِ شيئًا؛ وخالَ أنُّهُ فرنسي الهوية ولا صلة له بآلام العرب
والمسلمين؛ يصطدمُ ب"مريم" وأسرتها الضحايا للقانون الفرنسي الظالم الذي
يفرضُ إقامة المسلمين فى مناطق معينة مهما هجَّروهم قسرًا من بيوتهم وأحلامهم. هذه
القضية هزَّته خاصة مع استعدادِهِ لخوض انتخابات البرلمان؛ ليطاحَ بأسسِهِ
ومسلَّماتِهِ كليةً مع وصول هذه الرزمة من الرسائل مجهولة المصدر. إنها رسائل أبيه
إليه.... التي علمَ من خلالها حقيقة كبرَى مخفية عنه: إنُّهُ ليس فرنسيًا أصيلًا؛
إنُّهُ ابن عربي مسلم أتَى فرنسا تسللًا بصورة غير مشروعة عاشَ فيها كاللصوص وعاصر
بينَ طياتها أبشع الاستغلالات ولم يكن زوجًا صالحًا بالدرجة الكبرى. إذن، عَلَمَ
أنُّهُ ابن رجل من أكثر المهمَّشين فى الوطن الفرنسي؛ رجل لولا معجزات الإله، ما
"بَقَى". رسائل بمؤداها زلزلة كل الاستقرار الخارجي المزعوم الذي ظنَّ
خليل (أو دانيال) أنُّهُ حيا عقودًا من عمره لتهيئته وتشييده.
ضاعَ دانيال ولم يعرف أنَّى له أنْ يحيا فى أعقاب هذه
الصدمات التي فتتَتْ عزمَه. من يأتِي ليعيده من الحافة التي بلغها؟! أجل يا
سادة.... إنها "رنيم شاكر"؛ وصدِّقوا أو لا تصدقوا.... لقد أصبحَتْ
أستاذًا للقانون الدولَى فى إحدَى أرقَى الجامعات الفرنسية. وبأسلوبها السلس
الراقي، وقد تبدَّتْ ملامح النضج على هيئتها وحديثها، أنهَتْ له الصراع كله
بقولِها: "أنتَ لن تهتمَ بالقضايا الفرنسية وحدها ولا القضايا العربية
المسلمة وحدها، ستكون (جسرًا) بينَ العالمين توصِّلُ وجهات النظر وتلحم الفجواتِ
وتحقق التوازن بينَ هذه القوميات المختلفة التي ينبغي أنْ تتعايش سويًا".
هكذا صارَتْ مهمتها، وهكذا نصحته بتتبع خطاها. خرجَ خليل من عندِها وقد وهبته
سببًا حقيقيًا للحياة؛ فقرر أنْ يكونَ صوت من لا صوتَ له؛ وأنْ يكونَ المترجم
مستغلًا جذوره المزدوجة. أفهمتُم دورها؟! دورها أكبر من مجرد شخصية روائية، إنها
رمز "التعايش" و"التفاهم"!
فى رواية "ياسمين العودَة"/ والتي ما زلتُ فى
بدايتها لبطئي الشديد فى القراءة عامةً، رأيتُ أنَّها لم تتخلَّ لحظةً عن عُمر
الرشيدي؛ فرغمَ بشاعة موقفه فى القضية، لم تتحرج فى الاعتراف به "رجلا تودُّ
قضاء سائر حياتها معه"؛ لقد أحبته رغمَ كل عيوبِهِ ورأَتْ جوهره الذي حاول
العديدون إقناعها بعدم وجودِهِ. ولولا التعسُّفُ الذي لاقته من أسرتها، لَمَا
توانَتْ عن التمسُّكِ به. رأيتُها لم تنتهِ يومًا -وتحتَ أي ظرفٍ- عن تقديم كل
المساعدة له حتَى نالَ براءته متحمِّلةً ظلم حكمِهِ عليها من أجلِ أنْ ينالَ
حريته. رأيتها عاشقة غير أنانية، فعندمَا استغلَّتْ تحسن علاقتها بشهابٍ من أجلِ
السفر إلى باريس، فقد شعرَتْ بتأنيب الضمير جهته. هذا يدلُّ أنَّها شخصٌ نزيه لا
يحبُّ الاستغلال....! (سأتوقف هنَا لأني لا أعرف باقي الحكاية بعد).
فى الختام، أعتذرُ على الإطالة، لكنِّي أعنِّي أنَّ من
يتهمُ دكتور خولة أنَّها جعلَتْ "رنيم" بهذه الصورة، فأرى أنَّ السهم
يرتدُّ إليه.... رنيم شاكر مثال مشرف لكل مصرية ومسلمة: إنسانة لها كبواتُ الفارس؛
معطاءة؛ نزيهة؛ آل مصيرها إلى النضج والمركز الأكاديمي والمهني العالي؛ العاشقة
المضحية غير الأنانية.... وقد كانَتْ الكاتبة ممتعة ومشوِّقة فى سردِها لحيثياتِها
منذ بدايتها لنهايتها؛ وكأنَّها وجدَتْ بها تحديًا رائعًا. فقلم الكاتب يعشقُ -على
غير إرادته- الشخصية التي تمتلىء صراعًا فيضعُ فيها كل طاقته الإبداعية؛ هكذا
رأيتُ رنيم شاكر.... إنَّها كانَتْ تحديًا لدكتور خوَلة، وحتَى الآن، أراهَا قد
نجحَتْ فيه J
No comments:
Post a Comment