لسنواتِ كنتُ كلما عُرِضَ فيلم "إمبراطورية ميم" لفاتن حمامة وأحمد مظهر، إمَّا أنْ أقلبَ القناة _خاصةً وأنَا طفلة_ أو أنْ أجلسَ إزاءه للتمتُّعِ بالحكاية ومغزاها العام الذي تحمله علاقة الحب بينَ البطلين. لكني مؤخرًا أصبحتُ من عشَّاقِه بعدَ فهم رسائله العديدة. الفيلم يدورُ حول "منَى" التي عارضَتْ أهلها وتزوَّجَتْ "محمد" الذي كانَ خير الأزواج والذي حدَّثَها عن أمنيته فى أنْ يكون لديه درزينةً من الأبناء يكونون إمبراطورية يعوضُ بهم كونه الابن الأوحد لدَى أسرته؛ وقد كانَ. أنجبَتْ منَى ستَّة أطفال سرعان ما مرضَ أبوهم ووافته المنيَّة ليتركها حائرةً مع أبنائها الست لتكونَ أباهم وأمَّهم فى الوقت نفسه. استعرضَ الجزء الأول من الفيلم حال هذه "الإمبراطورية" حيثُ مرَّ العمر؛ وصارَ أكبر الأبناء "مصطفى" فى كلية الحقوق؛ وأصغرهم "ممدوح" فى الابتدائية. لكل منهم مشكلته الخاصة ولا يستطيع الاستئثار بنصيب جيد من اهتمام الأم التي باتَتْ منشغلة على الدوام فى مشوارها المهني وقد أضحَتْ وكيلة فى وزارة التربية والتعليم.
تدور الحبكة الأساسية للفيلم حول هذه الأم التي أجبرتها الحياة على التخلِّي عن مشاعرها الأنثوية من أجل "ترويض" مجموعة من الشباب والمراهقين دونَ أنْ يكونَ لديها سند على الإطلاق. ثمَّ يظهر رجل الأعمال المرموق "أحمد" ليكونَ الامتحانَ الأثمن لها فى الفيلم: أتتبع سبيل الهوَى لترضِي أنوثتها المردومة؛ أم تعاود رفض عرض الزواج من جديد لتقضي باقي عمرها فى تربية أشبالها الذين تراهم لن ينضجوا أبدًا؟ فى هذا المقال، لستُ موكولةَ اللُبُّ بهذه القصة الرومانسية الناشئة بين أحمد ومُنَى؛ بل بفك رموز علاقتها بأبنائها وربطها بالسياق السياسي المحيط للفيلم (بداية فترة الرئيس محمد أنور السادات).
بادىء ذي بدء، ومع قراءة اسم الفيلم "امبراطورية ميم"، فإننا نكادُ سريعًا نسقطه على بيت البطلة التي ارتأَتْ مع زوجها تسمية صغارهم بأسماء تبدأ بحرف الميم نظرًا لتصادف كون الأب حاملًا لاسم "محمد"؛ وهي تُدعَى "منَى". لكن إذا نُبِشَ التراب قليلًا وراء الاسم، فهو يرمز إلى "مصر"؛ هذه الامبراطورية التي تضم بين جناحيها هذا الكم الهائل من التناقضاتِ والمشارب السياسية والاجتماعية. فإذا رفعنا ستار كل شخصية من الأبناء؛ لوجدنا خلفها توجهًا اجتماعيًا أو سياسيًا مميزًا له على البطلة "مُنَى" _وهي بالمناسبة تشير إلى الدولة المصرية آنذاك_ أنْ تحتويها وتتفهم مقاصدها ولا تغلظ عليها لكيلا تعندَ.
من ناحية، "مصطفَى" طالب كلية الحقوق لا يتورَّعُ عن تقمص دور الاشتراكي الذي يطالب بالثورة على كل سيطرةٍ ولو كانَتْ أمه باعتبارها المالكة لرأس المال والمتحكمة فى مصائر جميع العاملين بالمنزل بما فيهم هو وأخوته. لم يتردد فى اعتبار أعمال "أحمد" مع دول رأسمالية إثمًا لا يمكن العفو عنه؛ وذلك حتَى أفهمه الأخير أنَّ الاقتصاد لا ينبغي أنْ يتأثرَ بالموازين السياسية وأنَّ المعاملات التجارية الرابطة للدول الرأسمالية والاتحاد السوفييتي أكبر من تلك الرابطة بين الأخير وبينَ بعض دول الكتلة الشرقية. كما أنه يرفض الطبقية؛ لذا طالبَ الخادمة والبستاني أنْ يشاركوه هو وأخوته وأصدقائهم فرحة التسامر فى الحفل المقام على شرف الانتخابات (المعقودة لرؤية من له الأفضلية فى التحكم فى شؤون البيت غير أمهم).
و"مديحة" ذات التوجه النسوي بكل تطرفاته تذيعها جهرًا ألا فارق بين الرجل والمرأة. وفى بداية ظهورها بالفيلم تدخل بخطَى متمردة وهي تتسربلُ بسروالٍ يشبه سراويل الرجال؛ وتعكصُ شعرها على نحوٍ ذكوري خافيةً ملامح أنوثتها بالكامل. كما أنَّها لم تتردَدْ أنْ تضعُ بين شفتيها _فى مناسبةٍ أخرى_ "بايب" مؤكدةً أنَّ جميع التصورات التي تدلي بأنَّ هذا "السلوك لا يليقُ إلا على الرجال" ليستْ سوَى تصورات خلَّفتها السيطرة الذكورية التي دامَتْ منذ الأزل والتي ينبغي التحرر منها. على نقيضها تمامًا، نرَى "مها" تتوه فى أتون الروايات الرومانسية وتنتظر فارسها المغوار ليأخذها على جوادِهِ إلى عالم الخيال؛ والتي لم ترَ عيبًا فى الوقوع فى قصة حب مراهقة وسمحَتْ لمعشوقها باصطحابها فى النزهات وإلى منزله ليريها صورَه. فتاةٌ حالمةٌ تتبع خطَا الهيمنة الذكورية باقتدارٍ؛ ولا ترغبُ فى النأي عنها. وهناكَ "محمود"؛ و"مدحَتْ"؛ و"ممدوح"؛ أولهم من هاوي الجيتار الذي لا تتوانَى الأم فى البداية عن توبيخه على اهتمامِهِ بموهبته على حسابِ دراسته؛ والثاني يعاني من الوحدة المفرطة والفراغ الذي قادَه لتجريب سلوكيات شاذة كشرب الخمر والتدخين بل والموافقة على أنْ تقبله خادمةٌ صغيرةٌ؛ والثالث طفل صغير ما زالَ يحيا فى طور الطفولة بكل طيشها وتهورها، يهوَى كل رياضةٍ تحرر طاقته المكبوتة.
عدد من التيارات (الاشتراكي/النسوي/الرومانسي)؛ ودرجات متفاوتة من الوعي (النضج/المراهقة/الطفولة)؛ جميعهم فى مواجهة الأم وهي الدولة أوْ النظام السياسي السائد الآمرة الناهية (باعتبارها الأكبر سنًا؛ خبرةً؛ المالكة للمال المدبر لأمر المنزل). استوضحَ جزء الفيلم الأول إخفاقها الذريع فى التعاطي مع هذه الانتماءات والتوجهات؛ إذ ليس لديها إلا صولجانِ السلطة. سخَّفَتْ أفكار مصطفى؛ واعتبرَتْ مديحة شاذة عن المألوف؛ ورأت مها مجرد مراهقة ستضيعها أحلامها صفعتها يومَ علمت بمرافقتها لصديقها إلى منزلِهِ؛ ومحمود لا يصنع فنًا بل يضيع مستقبله بالموسيقى ومنعته من لقاء فرقتِهِ وكسَّرَتْ جيتاره؛ وممدوح رجلٌ ما زال يريدُ تدليلًا نضجَ عليه وحرمته من الكرة. وأخيرًا بالنسبة للضائع مدحت، استخفَّتْ بعنائِهِ رغمَ علمها به، فتقولُ باستهزاءٍ فى بداية الفيلم لمَّا دخلَتْ غرفته واستنشقَتْ العطر الذي نشره فيها لإخفاء رائحة السجائر: "كم أنا مسرورة لأنك تحتفظ برائحة غرفتك زكية". ركزَّتْ على مآربِها الخارجية المتمثلة فى العمل وفى مشاعرها الأنثوية المهملة؛ وفى سبيلهما تجاهلَتْ نسيج بيتها الآخذ فى التآكل من فرطِ عدم الاكتراث. انعدمَ الحوار تقريبًا على مائدة الطعام؛ فكل منهم يأسَ من الحصول على اهتمامها وفضَّلَ ممارسة طقوسِهِ بعيدًا عنها وقد باتَتْ _فى نظرهم_ هادمةً لآمالهم تنظر إليهم كأحمالٍ ثقيلة سيعفو عنها الله إذا لم تتمكن من احتوائهم.
ويستمرُّ الفيلم فى هذه الدوامة لبعض الوقت كأنه لا يوجد حلٌّ لهذه العقدة: الهوَّة تتسع ويزيد الوضع ترديًا مع بروز "أحمد" فى الآفاق من جديد. وذلك حتَى تنفجرَ الحقيقة فجأةً فى وجه الدولة التي أهملَتْ مشاحناتِ أمعائها السياسية والاجتماعية: هذه المشارب جميعها تكتَّلَتْ ومن شدة غليانها قررَتْ اتخاذ وقفة أمام هذا التعسف فى التعامل مع احتياجاتهم. من هنا تفتقَتْ أذهانهم عن "الانتحابات" كرسالة يبعثونها لها أنَّ الانغلاق الشديد فى مواجهة الحركة الديناميكية للمجتمع سيؤدي لا محالة إلى الثورة والرغبة فى التحرر. حسبتهم منَى فى البداية يمزحون تمامًا كتعامل أي نظامٍ سياسي مع نواة ثورة شعبه. لكن مع تقدمهم فى إجراءات الانتخابات، أدركَتْ أنْ زمن المزاح ولَّى وأنَّ عهد التجبر وتكميم الأفواه انتهَى.
بدءً من هذه اللحظة، نلاحظ أنَّ منَى قد بدأَتْ فى مراجعة أدائها والأسباب التي حرضَتْ أبناءها على التصدي لحكمها والرغبة فى ألبِهِ والبحث عن أي نظامٍ آخر قد يكونُ أقل كفاءةً وخبرةً منها _وهو مصطفى_ لمجرد الهروب من سطوتها. تخلخلت نظرتها الماضية نحوهم ليحل محلها نظرة مفعمة بالتقدير لكل منهم. فأمَّا مصطفى، فمنحته فرصة الحديث بعدَ أنْ اختبرَتْ بنفسها كيف استطاعَتْ خواطره الاشتراكية الثورية أنْ تحشدَ الجميع ضدها؛ وكيف تتزايد فرص نجاحه عليها. توقفَتْ عن انتقاداتِ مديحة واعتبرها امرأةً ناضجةً يمكن توكيلها أجزاء من المسؤولية بعدَ أنْ وجدَتْ أنَّ توجهاتها تلك لا تنقصها شيئًا بل تصقلها. قدَّمَتْ الكارت الأخضر لممدوح ليبرمَ بروفَاتِ الموسيقى تحتَ مرآها وسمعها فى بيتها وبدأَتْ فى إعطائه مساحة للتعبير عن رأيِهِ.
ومع مهَا، فالوضع انفرج بعد الصفعة ودعتها لجلب هذا الصديق إلى بيتهم ليتعرف على إخوانها وعليها وليمنِّي علاقة طيبة معهم جميعًا؛ وفى ذلك تفادي للإغلاظ على الفتاة بإفراط قد يعرِّضُها للضياع. أمَّا ممدوح الصغير، فبعدمَا كانتْ تعامله كرجلٍ كبير لا يصع له أنْ يخطأَ (مثلمَا أمرته فى البداية بعدم لعب الكرة فى المنزل بعدَ أنْ حطَّمَ الزجاج)، فقد قررَتْ أنْ تحتضنه كطفلٍ صغيرٍ يخطىء ويحتاج التقويم وعلمَتْ أنُّه الأشد تعلقًا بها. فعندمَا قيل أنها ستتزوج، فقد هُرِعَ لقضاء نومته فى غرفتها مخبرًا إياها أنُّه أقدمَ على هذه الخطوة ليطمئنَها وليعلمها أنها ليست وحيدة ولا فى حاجة لزوجٍ يطمئنها ويهدهد روعها فى المساء. تفهمَتْ رغبته فى لفت انتباهها ووعت إلى احتياجاته. وأخيرًا وليس آخرًا، فمدحَتْ بدأَتْ تناقشه فى مشكلاتِهِ بعدَ أنْ اعترفَ لها بزلته مع الخادمة؛ واستطاعَتْ تشخيص مرضه ألا وهو "الفراغ" ثمَّ قدمَتْ له الحل فوريًا بعدمَا سألته فيمَ يحب قضاء وقته، فأخبرها أنه فى تأليف القصص، فأمدته بأدرينالين التشجيع وأخطرته أنها مستعدة لقراءة بل وشراء هذه القصص؛ وما عليه إلا أن يستثمر وقته فى إصقال هذه الموهبة. وفى مناسبة أخرى، وقد علمَتْ عن تدخينه، اتبعَتْ نهج الحكمة وعدم الإكثار فى تعنيفه كيلا تخرج الأوضاع ن سيطرتها، وأخبرته أنُّه إذا أرادَ إفساد صحته، فليس عليه إفساد أخلاقِهِ بالكذبِ عليها. وفى هذا، فقد أرادَتْ بدء صفحة جديدة معه تنال ثقته كي تستطيع تربيته فيما بعد.
وظهرَتْ تداعيات هذه السياسة الانفتاحية أنَّ الأبناء وحدهم واحدًا تلو الآخر قد بدأَ فى التقرب والتودد إليها والاحتزاب إلى جانبها؛ بل ورسَتْ الانتخابات النهائية علي كفتها. والحق أنَّ توترها خلال تفريغ أوراق الانتخابات وفض الاختيارات كان دليل على أنَّ فعلتهم قد هزَّتها وأنها غارَتْ من أن تكون ولايتهم لغيرها؛ وهو ما ينتاب النظام السياسي _خاصةً فى دول العالم الثالث الذي يعتبر أنَّ الرعية ملك حصري لهم لا ينبغي لأحد من بعدِهِ. ولمَّا توالت الاختيارات تنصب عليها هي، ارتاحَتْ وأحسَّت بأن هؤلاء المواطنين الواقعين تحت كنفها قد أهملتهم وبخسَتْ بحقهم طويلا؛ وكادَتْ تفقدهم بساساتها المتعسفة.
وهنا لا بد من تسليط الضوء على أمر فى غاية الأهمية؛ وهي أنَّ نهاية الفيلم كانَتْ مركبة. فمن ناحية، لم ينتهِ أنَّ الدولة المصرية (منى) قد تمكنت من حل جميع معضلاتهم أو أنها ترضى عن سلوكياتهم تمام الرضا. فانتقدَتْ مصطفَى وحواره مع أحمد وقالَتْ بالحرف الواحد: "ألا تعتقدون أنَّ العشاء ليس وقتًا للحديث فى السياسة؟" وبقَتْ تخشَى من توجهاته التي قد تخيف البعض منه؛ وفى الحفل الأخير، انتقدَته مجددًا لمَّا ابتاع البيرة وقالَتْ: "أهذا هو الرجل الذي أردت الاعتماد عليه؟". ولم تستطع حماية مديحة من الصدمة العاطفية التي لاقتها فى هذا الحفل؛ وكانَتْ مجرد الصدر الحنون الذي تلقفها وحاوَل مواساتها بعد وقوع الصدمة. ولم ترضَ على انغماس ابنتها مها الشديد مع صديقها فى الحفل بحيث ظَّلَت تحط أنظارها الراعية عليها خوفًا من تفاقم الأمور. ومحمود، جلسَتْ فى الاحتفال مستاءةً من موسيقاه الحديثة المرهقة؛ ومدْحَتْ فُجِعَتْ لمَّا رأته قد ثملَ وحملته مع إخوته إلى داخل المنزل ولم تتوانَ عن سبهم مما فعلوه من انفلات للبيت؛ وممدوح الصغير ظلَّ متشبثًا بها طيلة الحفل كالحارس الأمين ولم تتمكن من صرفه ولا هدهدة مخاوفه.
من ناحية أخرى، اختتمَ الفيلم بأربعة أمور وأولها نجاح منى فى الانتخابات نجاحًا ساحقًا بحيث أجمع كل من فى المنزل على أنها الأصلح لإدارته والنظر فى شؤونه؛ وثانيها إعراضها عن زواج (أحمد) مع وعد بأنها فى المستقبل قد تراجع نفسها؛ وثالثها بوقوفها قطبًا وسط أبناءها الذين قالوا لها: "إنها إمبراطورية ميم"؛ لتصحح لهم أنها "دُنيا يعيشونها سويًا"؛ ورابعها وآخرها هو عودة الحوار لزيارة منزلهم ونشوء الألفة والتفاهم بينَ أطراف الأسرة. بدمج هذه المشاهد الختامية معًا، يمكن استنتاج رسالة الفيلم بسهولة: "وظيفة الدولة هي التسامح مع كافة أطياف المجتمع بزلاته وهفواته قبل أن تكون بحلوها وإنجازاتها؛ فلا أحد مثالي وستبقى العثرات شيمة دنيوية أساسية"؛ و"أنَّ النظام لم ينل الولاية _غير المطلقة_ على هؤلاء الرعية لكي يتحكم فيهم ويفرض سلطته بجورٍ؛ وإنما ليعينهم على تحسين أوضاعهم ويراعاهم ويهتم بأفكارهم حتَى ينضجوا وتكون ناصية أمرهم بيدهم؛ وهذا كله يبدأ من: الثقة المتبادلة (مثلما يثقون فى حكمه، عليه أنْ يثق فى قدراتهم المستقبلية واختياراتهم) والحوار (وهو الأداء الذي تدعو الفيلم أي نظام سياسي إلى التمسك به فى إدارة شؤون المجتمع) وأخيرا عدم التعسف وإعطاء فرصة للتعبير عن الرأي.
بالعودة إلى سياق الفيلم المحلى وعلاقته بمجرياته الدرامية؛ يمكن القول أنَّ بناءً على بعض النظريات، فالسينما تلعب دورًا فى ترسيم الرأي العام للشعوب؛ مما يجعل بعض الحكَّام يلجأون إليها لقولبة شعارات حكمهم لنيل الشرعية من المواطنين. ومثال على ذلك هو فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إذ استخدمَ السينما للترويج لمبادىء ثورة (1952) على غرار فيلم "رُد قلبي" و"الأيدي الناعمة"؛ فالأول ينزِّهُ الثورة ومبدأ إلغاء الطبقية؛ والثاني يقدس المساواة بين الجميع فيما يخص قيمة العمل. هنا، فالفيلم صُنِعَ عام 1972، أي يقع فى بدايات فترة تولي الرئيس الراحل (محمد أنور السادات) للحكم فى أعقاب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. مثلته الفنانة فاتن حمامة بمجرد عودتها من الخارج بعدَ أنْ أذيع أنها كانَتْ فارة مع زوجها (عمر الشريف) من سطوة جهاز المخابرات المصري فى فترة ناصر، الذي اشتهر بتشغيل الممثلات فى أعمالٍ مشبوهة لأغراض سياسية.
جاءَ الفيلم مروِّجًا للمبدأ الرئيسي الذي أرادَ السادات إبداء اختلافه عن النظام السياسي السابق فيه: الحرية والانفتاح والتعبير عن الرأي. فبعدَما اتسمَ نظام ناصر بالانغلاق الشديد والرأي العام الموجه صاحب الصوت الواحد؛ وكثرة الاعتقالات للعديد من الأطياف السياسية الأمر الذي أوصَلَ _وفقًا لعدة تحليلات_ إلى نكسة الخامس من يونيو 1967، فالفيلم ودُّ أنْ يعبِّرَ عن توجه النظام الجديد الذي أعلنَ ميله منذ البداية إلى المعسكر الأمريكي الليبرالي فى الحرب الباردة آنذاك الذي يعتدُّ بالانفتاح السياسي والاقتصادي. أرادَ الفيلم _وهو لسانُ النظام فى ذلك الوقت_ أنْ يؤكدَ على أنَّ النظام الجديد سيكونُ مخالفًا للنظام البائد وأنُّه سيثمِّنُ قيمة الحرية والاختلاف والديمقراطية؛ وتقليل دور الدولة فى الاقتصاد والمجتمع بأنْ ستكتفي بأنْ تضبطَ السوق والمعاملات بين المواطنين دونَ التدخل الشديد فيها. طبعًا لا يمكن الإغفال عن أنَّ صانع السيناريو هو الأديب المصري الحائز على جايزة نوبل فى الأدب على كوكبة أعماله الروائية السياسية، نجيب محفوظ؛ والذي صارَتْ ((الرمزية)) فى أعقاب ثورة 23 يوليو 1952 هي النمط الأدبي الذي اتبعه فى أعماله للتعبير عن رأيه؛ وها قد برزَتْ ملامحها فى الفيلم.
خلاصة القول، إن السينما ليست _دائمًا_ أداة مجتمعية محايدة تنقل الواقع بكل ما فيه من عوامل ومركبَّات؛ بل هناك سياق سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي؛ يظلل أغلب ما تقدمه خاصةً حينما يلاحظ النظام السياسي حجم تأثيرها ويعمد إلى اللجوء إليها كقناة يضخ فيها مبادئه. هنا، تتحول إلى بوقٍ متحيِّزٍ سرعان ما تتفكك شفراته بمجرد فهم من المسيطر وله اليد العليا فى الحديث؛ وفيلم إمبراطورية ميم لم يكن بالاستثناء.
No comments:
Post a Comment