Saturday, March 4, 2023

متاهة الحياة المنسية

 






متاهة الحياة المنسية



مراجعة لرواية متاهة حياة

لمروة سالم

،


فى البدء، ينبغي أنْ أهنىء مروة على اتخاذها قرار النشر الورقي وهذه الرواية تنمُّ عن صلاح هذا القرار. كمَا ينبغي أنْ أهنئها على أنَّ روايتها تصدَّرَتْ قائمة الأعلى مبيعًا فى دار شهرزاد للنشر والتوزيع وأنَا أشهدُ أنِّي حينما حضرت لاقتنائها، فقد حظيتُ بآخر نسختين موجودتين فى الجناح آنذاك. 

يتوجب عليَّ إذن أنْ أؤكد أنَّ المراجعة بها حرق للأحداث، 

لهذا أرجو لمن لم يتسنَّ له قراءتها أن يرجىء قراءة هذه المراجعة ريثما يتمم قراءتها ليستلذَّ مذاق المراجعة.

الطب النفسي العكسي، هذا هو مفتاح هذه الرواية.

أصل مهنة الطب النفسي هو السعي من أجل تخليص المُخ والنفسية من أمراضه؛ لكن ماذا لو أنَّ هدف الطبيب صارَ غرس الداء بحدِّ ذاتِهِ؟ 

أعتقدُ هُنا نقف أمام "متاهة حياة" حقيقية.

رواية أراهَا تمّيَّزَتْ أولا بالأسلوب اللغوي اللائق بالهذيان الذي تحتمله أسطرها؛ حيثُ عمدَتْ الكاتبة على سرد الأحداث بصيغة الراوي وذلك بعدَ مقدمة لكل فصلٍ (أو مسار) تتحلَّى بحكمةٍ أو خاطرة عامة تدور فى فُلكِ الأحداث. غير ذلك، كانَتْ فكرة مبتكرة تسمية الفصول بالمسارات، والابتداء بالمسار الثاني بينما تأجَّلَ المسار الأول حتَى ما قبل النهاية. لقد أعطَتْ مروة مفهوم "الفلاش باك" معنَى آخر حقًا. 

تميَّزَتْ أيضًا الرواية بالتشتت الشديد والتضارب فى الحكايات والأقاصيص وهو ما يليق تمامًا بالأزمة النفسية التي أسقطَ "غازي منتصر" زوجته فيها. كُنتُ أتساءل بينَ الحين والآخر عمَّنْ يقول الصدق، أهي مريضة بالفصام أم باضطراب تعدد الهوية أم أنها تصطنع حالة مرضية لحماية عقلها من الجنون؟ وحتَى النهاية لم يكن من السهل فهم ما الذي جرَى لها تحديدًا، وإن كانَ يستطيع القارىء أن يجزمَ أنَّها تعاني من هذه الأمور جميعها مجتمعة. 

تساءلتُ للحظةٍ عن الفارق بينَ المرض النفسي وبينَ الإجرام. فإذا رأينَا انَّ غازي منتصر مريض نفسي يقاسي من قضية "الخلع" التي شنتها ضدَّه امرأته الأولى، فأعتقدُ أنُّهُ لا ينبغي معاقبته فى النهاية أو على الأقل أنْ يُودع فى مشفى نفسي. لكني فى النهاية حسمتُ الأمر أنُّهُ مجرم سمحَ لذاتِهِ أنْ ينتهك حرمة عقول مرضاه؛ لا بل أن يمارس تجربة نفسية غاية فى الخطورة وهي خلق المرض النفسي فى ذهن امرأته السويَّة. 

كانَتْ خطواته مدروسة ولم يكن صعبًا على الإطلاق فهم أسباب قدرته الدقيقة بالنظر إلى الثقة المعتدَّة التي كانَ يتوسلها أثناء حديثه فى البرنامج التلفزيوني. لقد كانَ بارعًا بحق ولولا أنَّ دنيا كانَتْ تعرف كينونته وعلام تنطوي قشرته الرائعة، فظنّه كل رائيه أنُّهُ آية فى الإعجاز العلمي. لقد أبعدها عمَّنْ يمكنُ أنْ يشكِّلَ طوق نجاة بالنسبة إليها وأولهم أبوها. رُبما ظننتُ مثلها أنَّ أباها يمكن أن يتخلَّى عنها بسبب العبارة التي تفوَّهَ بها فى البداية انها من اختار وعليها احتمال عواقب الاختيار، لهذا حزنتُ أنُّهُ لم يكن من هذا النمط من الآباء القاسين وإنما غازي شوَّهَ صورته فى أعين ابنته بمخططه الشيطاني. 

أعتقدُ أنَّ كل اسم من أسماء الأبطال كانَ له مدلوله سواء (غازي) الذي كانَ يراها دومًا غنيمته؛ أو (دنيا/حياة) التي هي بالفعل مثل الدنيا والحياة بتقلباتها بينَ السعادة والشقاء، أو (طارق) الذي ظهرَ فى حياتها على نحوٍ أشبه بالنجم الطارق الذي أضاءَ سماءها المظلمة، أو (أمل) التي كانَتْ بالفعل منذ بدء حملها وهي أملٌ لأمِّها أنَّها ستنجو بها من هذا الهلاك المُحتم. 

رواية مُرعبة فى استعراض كيفية قلب مخ سوي عاطفى طيب القلب إلى مريض نفسي ضائع هاذِ بلا أي أمل فى النجاة. أجل، فى لحظة بائسة ظننتُ أنَّها لن تُنقذ من بينَ براثنه خصوصا حينما عثر عليها الغازي البربري. ولهذا سُعدت بالفصل النهائي (بصيص أمل) والذي أشكرك عليه جدًا لأنَّ فى الواقع هذا البصيص ليس موجودًا بهذه المثالية وكان يمكن أنْ يُقبض على هذا المتوحش بعدَ أنْ يكون قد ضيَّعها تمامًا بحيث تصير مجرد مجنونة مشعثة الهيئة بلا أهلية لرعاية طفلتها. 

رُبما لم أستسغ أنَّ فى بعض الأجزاء كانَتْ مروة تتبع أسلوب "المباشرة" مثلما فعلت وهي تقصص من وقتٍ لآخر الأفعال التي قامَ بها غازي منتصر فى خضمِ تجربته، فكنتُ أعتقد أنَّها لو ظهرَتْ فى وسط حديث لدُنيا مثلا كانَتْ ستكون أوقع فى الكتابة. غير ذلك، فالرواية بحق رائعة؛ إنَّها ليست فقط عن العنف الزوجي، وإنما هي أقرب لإشكالية الأخلاق والعلم. هناك بعض العلماء يرونَ أنَّ فى سبيل العلم، فكل شىء مُباح حتى لو كانَ إخضاع البشر إلى أعتَى التجارب. المُشكلة أنَّ فى حالتنا هذه، فغازي دمجَ بين تحيزاته الشخصية ورغبته الانتقامية من زوجته الأولى وبينَ تجربته المؤلمة فى حقِّ دُنيا. 

أخيرًا، فرحتُ بظهور (غوث عبد الحي) وهو بطل قصة (هواجس غسق)، والذي كانَ بالفعل غوث لدنيا وانتشلها من الظلام المُحكم الذي كانَ يلفُّها. 

أشكرك عزيزتي على هذه الوجبة اللذيذة رغمَ رعبها والتي التهمتها فى أقل وقتٍ ممكنٍ. أعتذر عن تأخري فى كتابة المراجعة ولكني كُنتُ مرهقة بعض الشىء الفترة السابقة. 

أحبك وأشكر القدر الذي جعلَ دربينا يلتقيان عزيزتي، ولكم أرجو لكِ المزيد من التألق فى سماء الأدب. لا تتوقفى عن الكتابة والنشر قط.

No comments:

Post a Comment