Sunday, April 27, 2025

أشياء ليست رائعة

 

أشياء ليست رائعة


 


تجربتي الرابعة مع الدكتور ريم البسيوني،

وبهذا يتبقى لي روايتان من النمط الرومانسي الاجتماعي وهمَا "رائحة البحر" و"الحب على الطريقة العربية"، لكي أكون قد ألممت بجميع رواياتها من هذا النمط.

حسنًا، أشياء رائعة،

إنها العبارة القصيرة التي نطق بها مُكتشف مقبرة توت عنخ آمون حينما أطل برأسِهِ في كوَّة الجدار نحوَها ونحو محتوياتها، كأول ردٍّ على من سأله "ماذا ترَى"، ليقول: "حسنًا، أرَى أشياء رائعة"!

إنها كناية عن الشعب المصري، صاحب التناقضات، والذي لا يكف عن إذهالك باختياراته وبمساراته، بمعتقداته، وبتساؤلاته...!

الرواية عن ثلاثة أبطال: القبطان مُراد، والدكتور حازم، والفلاحة أسماء..

لن أتحدث عن كل شخصية على حدَا، وإنما سأقارن بينهم لكي نستطيع رؤيتهم بصورة مُنصفة،

في الوقت الذي كانَ القبطان مراد قد حاربَ في معارك الاستنزاف المصرية شاهدًا على النكبة، وعلى مقاومتها، العاشق لتراب هذا البلد، إلا أنُّهُ سقط سريعًا في وحل الخطيئة بتهريب المواد الممنوعة والذي أثرَى نتيجة لها، والذي وصل لكل امرأة تمناها في أثناء سفرياته البحرية، حتى أصبح العثور على امرأة صعبة المنال هو تحديه، حتى أصبح العثور على الخلود ولو من خلال مقبرة يتحدث عنها القاصي والداني، هو أقصَى ملذاته...

يلتقي في بداية الرواية مع الدكتور حازم، ويتفقَا بصعوبة شديدة على أنْ يصمم ويبني له الأخير مقبرة تكون حديث الأشهاد، لم تخطر على قلب بشر.. ويوافق حازم، ليس من أجل المال، فهو الثري الذي لا يعوزه بضع ملايين، وإنما من أجل أن يكون خالدًا بالمثل!

فالمهندس كانَتْ مهنة تقريبًا مُقدسة في عصر مصر القديمة، وهو، الذي كانَ يسكن السحاب، كانَ يؤمن أنُّهُ مقدسًا كمهندس مصر القديمة...

تبدأ الفصول بمقولة للدكتور حازم، نتعرف في كل منها على مراحل التبدلات في قلبِهِ...

فأنا أعتقدُ أنُّهُ البطل الأساسي لهذه الرواية، فتقلباته الشعورية التي نقلته من جلف لا يبالي بالكون ما دام كل شىء يخضع لقوانينه الخاصة، مثل أن الخادمة ستسرق هذا الأسبوع 100 جنيه، فلا بأس بوضع هذه المائة جنيه أمام عينيها كل أسبوع وأن تسرقها، ولا بأس أن سائقه يسرق سيارته كل يوم جمعة للالتقاء بأقرانه ما دام الدكتور حازم يعلم ذلك ويعلم أن السائق لا يغير عاداته!

الدكتور حازم الذي طلَّقَ المرأة التي أحبها، شيرين، فقط لأنها اختارت اللون البرتقالي لسور قصرهما بدلًا من اللون الأزرق الذي كانَ يصر عليه.

أجل، فهو الذي عاشَ حياته ملكًا على عرشِهِ، مدللًا، طلباته مُجابة، لا تفكير سوَى تفكيره.. الذي تحسرت عليه أمه عندمَا وجدت أمامه عشرات الفرص للعمل بعدَ الانتهاء من دراسته وقالت: "يا إلهي، إنُّهُ يعاني!"

هذا الرجل الذي لم يثر جنونه إلا خروج البشر عن قوانينه التي صنعها لأجلهم... أجل سيدي، نحن بشر، وقانوننا الوحيد هو "العشوائية واللاقانون"، مفاجأة، أليس كذلك؟

وضع لأسماء آلاف القوانين كسرتها هي الواحد تلو الآخر... أنها فلاحة جاهلة، ففاجأته بأنها فلاحة أي نعم ولكنها ليست جاهلة، بل هي الأعلم بقيمة العلم لدرجة أن كرست عالمها من أجل أن ينتسب ابنها الأصغر لمدرسة أجنبية وابنتها الوُسطَى للجامعة الأمريكية وابنها الأكبر للسلك الدبلوماسي،

هذه التي لم يقهرها شىء، لا علاقتها البشعة بأخيها ولا تمزق أواصرها مع عائلة زوجها الذين ينتهزون الفرص لاتهامها بسرقة الأرض، ولا العمدة أو المأمور اللذين سعَتْ لشراء جانبهما بكل ما استطاعَتْ من مال، ولا علاقتها السامة بزوجة القبطان، حنان، هذه المرأة السادية التي ليس لديها غال ولا حبيب...

كسرت قانون آخر وهو يراها ترفض إغراءات القبطان لكي تكون عشيقته ويشتري أرضها بثمن غالٍ،

كسرت قانون آخر في نفسه وهو يرَى نفسه فجأة خاضعًا لتأثيرها ويوافق على شراء الأرض، وأن يحتكر مشروع المقبرة لنفسه على أرضها...

قانون آخر يُدك وهو يرى نفسه مهرولًا لإنقاذها من الحرب الضروس التي شنها على القبطان مراد...

كلما سقطَتْ ضحية، نصب نفسه عامودًا لكي يعيد إيقافها من جديد، بدون أي مقابل... قانون آخر يتداعَى!

ثم نسفت جميع القوانين جملة واحدة وهي تهرع لمكتبِهِ مساءً، تقبل يده بشغف، وتقول: "أحبك".. لم تكن هذه هي الأزمة، فهي ليست أولى النسوة اللاتي عشقنه، ولكن الأزمة هي أنه تزلزل لاعترافها...

تزلزل لدرجة أنه عندمَا خرجَتْ "رشا" من حياتِهِ، لم يفكر سوَى في أنها خرجت دونَ أن تقدم له تفسيرًا معقولا للفيضان العارم الذي اجتاحَ مشاعره جهة أسماء!

ثم لم تكتف أسماء بإنجازاتها الخارقة في بلدته التي أحالت نهارها ليلًا، بل فجرتها بالكلية حينما قبلت إهداءه جسدها بالكامل بدون مقابل، ورفضت أن يتزوجها مهمَا أصر، بادعاء: "أنا أم... إذا تزوجتك فقدت مركزية الأم في حياة أبنائي!"

أثارت أسماء بكل تأكيد جنون حازم طيلة الرواية... وكأنها في كل فصل كانَتْ تكسر له الحواجز التي تعيق تقدمه نحو البشر، فمع كل قانون أسقطته له، كان هو يتقدم خطوات ناحية العالم الحقيقي... لهذا وجدناه يتوجه ليدير حديثًا دافئًا مع خادمته وهو يحصل على إفطاره، وجدناه يقرر تقديم واجب العزاء مع ابنه في والد سائقه حتى لو تكبد عناء الذهاب قائدًا سيارته بنفسه للمرة الأولى منذ أعوام، متوجهًا لصفت اللبن (من أهم أحياء مصر الفقيرة)، ورأيناه يتفاعل مع الحياة أخيرًا بلكم سائق سيارة الأجرة الجماعية...

الدكتور حازم قهرته فلاحة في الاربعين، أذهلته وأخرجته عن أطواره...

انتظرت بفارغ الصبر اللقطة التي سيقبل فيها أن يأكل من يديها... انتظرتها بفارغ الصبر ولكن الدكتورة ريم بسيوني بخلت عليَّ بها...

إذن، طرحَتْ ريم بسيوني في روايتها مسألة في غاية الخطورة "الوتد/الأم" في الأرياف..

لقد فضَّلَتْ أسماء (التي رأيتها مخبولة) أن تحافظ على مكانتها في حياة أبنائها كأم لا يجوز مجادلتها، والتي "ضحت ولم تتزوج رغم وفاة زوجها وهي في الثلاثين"، هذه المكانة التي تضمن لها سيطرة تامة على حياة هؤلاء الأطفال.. وأن تزني زنًى صريح (ومقزز) مع حازم على أرض المقبرة العتيقة العظيمة التي صنعها... على أن تستغل هذه الفرصة التي لن تُعوض وهي أن تصير زوجة رجلًا سينتشلها وأبناءها من الضياع.. يحبها بصدق، يؤتيها عالمًا تتمناه لعيالها...

شخصية غريبة الأطوار... بحق اعتبرتها ذلك.. خصوصًا وأن الدنيا لا تهب هذه الهدايا بكثرة.. ولم أفهم كيف لها أن تتقبل هذه الحياة الغبية التالية التي حاكتها لنفسها: أنها الملبوسة المبروكة التي تلبستها أرواح الأموات والتي كُشف الحجاب بينها وبين الغيب.. بينما قلبها ينكوي كلما رأت حازم.. أتصدق أنها ستحيا شهيدة الحب بالفعل؟ أراهن أنها ستكره أبناءها تمامًا في القادم من عمرها على حرمانهم لها من عشقها الوحيد (طبعًا لم يفعلوا ولكنها ستؤمن بذلك لأنها أنانية)!

أحببتُ كتابة ريم للمعارك الطاحنة التي كانَتْ بين حازم الذي يرى الدنيا صلصال بينَ يديه، وبينَ مُراد الذي لم يكن يريد أن يضيع منه مشروع المقبرة أو أسماء، وهذا حتَآ تفهَّمَ حازم أن الأمر أصعب لأن الفساد متاصل في البلاد ومن يتساقط دومًا هُم البيادق الصغيرة التي بلا حول ولا قوة وليس فطاحل وأعمدة الفساد...

رواية مليئة بالفلسفة، ولكني لم أحب نهايتها... وإن كنت أتأمَّلُ أن حازم سيكون من الإصرار بحيث يومًا ما سيحصل عليها...

لقد تغير كثيرًا حتَى أصبح الرجل الذي يناسبها تمامًا... خصوصا وأنه باتَ وحيدًا بالكلية بعدَ اغتراب ابنه!

أعطيتها تقريبًا 3.5/5!

لماذا لا يجب أن تكون البطلة بدينة؟

 

لماذا لا يجب أن تكون البطلة بدينة؟

 

 

مجموعة قصصية لا تتجاوز المائة صفحة تقريبًا (إذا كُنتُ أتذكر صحيحًا)، والحق أنها مثيرة للعجب!

في البدء أعتقد ألا رابط بين هذه القصص البتة، وأن العناوين الرنانة لكل باب من الأبواب الثلاثة التي قسمتهم بناء عليها، لم تقنعني أنها تمس ما تحتويه أبدًا!

العديد من القصص لمست جزءً ما بداخلي، ولكن مع نهاياتها المبتورة، فقد خرجَتْ من قلبي مثلما دخلت...

فهناك مثلا قصة "البطلة لا يجب أن تكون بدينة"، ابتسمت معها، هذه المعركة بينَ الكاتب وبين بطلي الرواية الذكريين اللذين يعشقان البطلة البدينة، القبيحة، التي لا يراها الكاتب ترتقي لأن تكون بطلة... يفعل الأفاعيل من أجل أنْ يقنعهما بالابتعاد، ولكنهما لا يفعلان.. حتى تقرر البطلة نفسها بالتدخل وبأنْ تخضع لرغبات الكاتب كمَا يشاء بإيمان أنها لا تستحق أن تكون محبوبة... لم تكن النهاية مفهومة، فأحببتها ولكن ليس كثيرًا!

هناك قصة "أحمد" والتي بصراحة رأيتُ أنها شاعرية رومانسية زيادة عن اللزوم، فلا، الأديان ليست واحدة أيتها المؤلفة، وبالتالي فلا يمكن غفران هذه القصة فقط بالعبارة الأخيرة "أنها تقرأ معه القرآن ويصلي هو معها بالشموع" (تصرفت في العبارة لأني لا أتذكرها حرفيًا).. لقد انتحرت البطلة لأنها ببساطة لم تعد قادرة على أن تقنع أهلها بعشقها المدفون لأحمد... جارها الذي أحبته أكثر من نفسها... والحق أن الكاتبة لم توضح ماذا صار لهذا البطل لكي تنتقي البطلة الموت لتكون بصحبته... لم توضح ذلك!

من ناحية كتابة هذه القصة، حيث تفاصيل حبهما، كانَتْ تدغدغ قلب كل إنسان، أنها سقطَتْ في إحدى المواد لأنه كانَ يجري عملية استئصال الزائدة الدودية، أنه كان يبتاع لها الشيكولاتة عندمَا تنجح... ولكن أيضًا، قصة يصعب تقبلها...

هناك عشرات القصص الأخرى، والتي لم أفهمها البتة... مثل قصة الأربعة: الرجل والمرأة وكلباهما، وكيف افترق الرجل والمرأة بينما التقى الكلب والكلبة، لم أفهم شيئًا.. على الإطلاق...

كذلك القصة التي كانَتْ عبارة عن شخصيتين روائيتين، هما متنافران كلما التقيا في قصة، قضَى في الأولى -إذ كان قاضيًا- عليها بأن تبقى عارية عقابًا على جريمة ما وهي عقوبة قاسية لا تتناسب مع الجرم، ومنذ ذلك الحين وهو يسمح لها باستغلاله كلما تواجدَا سويًا في قصة أخرى، كان من الممكن أن تكون رائعة لولا الفلسفة والصور المجازية التي جعلتني أيضًا عاجزة عن الوصول إلى مغزاها..

هذه الفتاة التي كانَتْ تتراقص في الميدان وهي عارية، وكانت متفاجئة أنها ليست متفاجئة من هيئتها، وأتاها فارس شاركها الرقص قبل أن يختفي.. فلسفة مُعقدة!

أما القصص التي أعجبتني حتَى نهايتها:

ثقل... يا إلهي، ما هذه الروعة؟ هذه المرأة التي تحمل آثام الجميع في قريتها وتكفر عنها ومع ذلك لا تشعر أن ثقل حملها يقل أبدًا، تعيش عمرها كله لا تستطيع أن تعرف جرمها لكي تكفر عنه... يا للرهبة "الأخسرين أعمالًا"..!

تتيانا... يا إلهي مرة أخرى؟ ما هذه القصة أيضًا؟ القرية التي يحكم رجالها على نسائها القبيحات بالموت الفوري، وعلى نسائها الجميلات بأن يكن جواريهم اللاتي يقضين أعمارهن لمتعتهم فحسب، حتى ينقص الجمال ويذوي ثم يقتلونهن... حتى وُلدت تتيانا، المقسومة بينَ نصف فاتن يتجلى في النساء وقبيح يتجلى في النهار... أتاهم حكيم ونصحهم بالإبقاء عليها لأنها تمتلك جمالًا.. ولكن وبعدمَا وصل البعض لتقديس نصفها المُبهر وتنديس نصفها المشوَّه، قتلوها بمحاولة فصل النصفين عن بعضهما البعض.. ليهيموا مجانين بعد ذلك وقد قضوا على نموذج جميل، لا يستطيعون معرفة الحدود الفاصلة بينَ خيرهم وشرهم.. أجل احتوَت على فلسفة ولكني أعتقد أني فهمتها ولو قليلًا، فالحق أن جميعنا نملك الجمال والقبح، مدموجان ببعضهما البعض حتى لا نستطيع فصلهما البتة، فلا ينبغي لأي أحد أن يقرر ألا ينال سوى الجمال وأن يطرد كل قبيح.. لأن هكذا لن نعيش!

قصة "التركة".. حتى هذه اللحظة التي أكتب المراجعة، أرتعش لا إراديًا حينما أتذكر تفاصيلها.. أجل، الإهانة والاستضعاف المستمر، وتمريغ الرأس في الطين يمكن أن يفقد المرء عقله... لقد فقدَتْ باتريشيا عقلها بكل تأكيد... والسؤال هل بإمكان الحنانِ الذي أسبغه عليها جورج أن تستعيد آدميتها؟ نهاية القصة لديها قول في هذا الشأن، ولكني اشعر أنها لو استمرت في صحبته، فلسوف تتعالج... في رأيي أن بحثها المطرد عنه كانَ يعني أنها بالفعل لمسته.. ولكن شيرين لا تريد نهاية مُفرحة بالتأكيد لكي تصل إلينا الآثار السلبية لسوء معاملة الزوج لزوجته!

مجموعة قصصية في مُجملها مُحيرة، أعطيها 2.5/5 لأني أؤمن أن الفلسفة شيئ مُهم في الكتابة الأدبية ولكن زيادتها لدرجة ألا يفهمها سوى الكاتب يُفقد النص رونقه للأسف...

أجل، ثلاثة قصص (ثقل وتتيانا والتركة) استطاعوا أنْ يصنعوا أهوالًا في قلبي، ولكن مع ذلك لا أستطيع التغاضي عن أن بقية المجموعة تسببت لي في أزمة مع عقلي: "أتفهم شيئًا يا عقلي؟"

"لا والله"

"حسنًا، دعنَا نذهب للقصة التالية لعلنَا نفهم"

"تفضلي يا إنجي.."

"تفضل أنت أولا يا عقلي"

"لا والله ما يحصل.. اتفضلي أنتِ"

وبقيت هكذا مع عقلي لفترة طويلة حتَى بلغنَا نهاية المجموعة!

في حبِّ الجنوبي، أمل دُنقل..!

في حبِّ الجنوبي، أمل دُنقل..! 



هذا الكتاب الصادر عام 1991، هو في الواقع سيرة (غير) ذاتية للشاعر المصري أمل دُنقل،

إذ تكفلت زوجته، الصحفية عبلة الرويني، بكتابته من ألفِهِ إلى يائه.

أعتبر أنَّ هذا الكتاب إسهام غاية في الأهمية لكل من يودُّ التعرف على هذا الشاعر الذي على حدِّ وصف زوجته "شديد الخطورة"، ليس من الناحية الشعرية، وإنما من الناحية الإنسانية، والتي تعُتبر ناحية مُكملة لكونِهِ شاعر.

دائمًا أحبُّ التعمُّق والغوص في نفس المُبدع المُثقف، معرفة كيف كانَ يتعامل مع من حولِهِ، على كافة الأصعدة، أن أسبغ الطابع الإنساني على إبداعِهِ.

ربما لهذا أحببت الكتاب وأنهيته رُبما في ثلاث جلسات وحسب.

أمل دُنقل، بحسب كلمات عبلة الرويني، رجل صعيدي حدَّ النُخاع، متناقض، فمن ناحية يريدُ نخر عُبب كل من حوله من أصدقاء وغير أصدقاء في حين يستحبُّ الصمت على الكلام، يَكتُم لدرجة احتراف الصمت ويراه فضيلة..

حينما سألته عبلة الرويني لِمَ لا يخاطب أمَّه، أجابها أنُّهما أي هو وأمه احترفا الصمت حتَى أصبح صديقهما الثالث (أكتب بتصرف طبعًا فأنا لن أتذكر تفاصيل الكتاب).

بالطبع عرفت أنُّهُ كانَ يعاقر الخمر، وهو شىء مؤسف لرجل والده هو الوحيد الحاصل على "العالمية" في الأزهر الشريف من قريتِهِ، هذا العالم الذي سمَّى ابنه "محمد أمل" عندمَا حصد هذه المرتبة الرفيعة ليكون أملًا وتفاؤلًا في هذه الدنيا.

عاش أمل بداياته مُقبلًا على الدين، لدرجة أنه عشقَ التردد على المسجد والخطبة،

لهذا بالتأكيد أنْ يصير شاربًا للخمر، فهذا أمر حقًا جرح قلبي..

لولا أنه ينبغي التيقن أنَّ أحدًا غير مثالي في هذه الدنيا.

تعرفت على جوانبه السلبية مثل عصبيته لدرجة الإطاحة بالأشياء في الشجار، صريح لحدِّ الوقاحة. وقد جمَّلَتْ عبلة هذه الخصلة بالقول أنُّهُ يستخدم هذه الصراحة الفجة من أجل الغور في أعماق من أمامه، فقال لها في لقائهما الأول "أتحبين البثور على وجهِكِ؟" ولآخر "أهلًا يا أعرج"!

صاحب كبرياء عالية، لا يمكن لأحدٍ أن يجرحها له،

بالطبع شىء مُميز أن يكون الإنسان أبيًا لا يُشترَى بالمال مثلما كانَ أمل دُنقل الذي لم يستطع أحد أنْ يستقطبه لجانبِهِ لا بمناصب أو بأموال.

ولكن ماذا عن أنُّهُ عاشَ فقيرًا وعذَّبَ نفسه وزوجته بهذه الحياة المُعدمة في حين كانَ لديه الفرصة مرارًا ليعمل ويكسب قوت يومِهِ.

للأسف أراه شخصًا غير مُتحمل للمسئولية، فوضوي لا يستطيع أنْ يصنَعَ مصدرًا مؤمنًا للدخل..

المُبدع شىء جميل ولكن الأجمل أن يكون رجلًا يصنع لزوجته عشًا مستقرًا وليس أعشاشًا مُضطربة يمكن القضاء عليها في أي لحظة.

للأسف لم أرَ أي مزيَّة في أنُّهُ لم يكن يعمل ويعوِّل على راتب زهيد يقرب الثلاثين جنيهًا فقط، يستيقظ ظُهرًا، لا يفعل شيئًا سوَى الجلوس على المقاهي ويبحث عن أيقونات لقصيدته،

لا يمكن للمُبدع أن يكون بهذه الغوغائية والهوائية... خاصة لو صار زوجًا!

لم تتحدث عبلة الرويني عن اختياراتهم قط حول الإنجاب، ربما لأنُّهُ مرضَ مباشرةً بعد الزواج، ربما بعد أشهر قليلة..

كم تألمت وهو ينتظر معونة الدولة لكي يستطيع إكمال علاجه.. شىء مؤسف أن تجعل حياتك على المحك بسبب استهتارك!

أعجبت برأيِهِ حول جمال عبد الناصر أنه لا يستطيع أن يدعم من يعتقل المُفكرين، فالحرية كانَتْ محور حياته التي تدور حوله مفتشًا عنها في جميع الأنحاء.

عرفت عن علاقته بالكاتب يحيى طاهر عبد الله، وعن صلاح عبد الصبور (وحادثة وفاته بعدمَا اتهمه بهجت ثروت الرسام بجريدة الأهرام بأنُّهُ باعَ القضية بتقلده منصبًا سياسيًا) وعن يوسف إدريس وعن حجازي، وغيرهم. في الحق هذه المقتطفات كانَتْ غاية في التميز.

تحدثت عبلة الرويني عن "الغرفة 8" في معهد السرطان، وصفتها لدرجة أني رأيتها أمام عيني، هذه الغرفة المليئة بالحبِّ، المُطلة على النيل، التي لا تتوقف عن استقبال أكثر من 20 زائرًا كل يوم.

يعشق أمل دُنقل الشعر حتى لم يعد يعتبره هواية، بل هو الحياة بأسرها وهو خادمه الأمين الذي يسير وفقما يملي عليه هذا الشعر، لدرجة أنه قد يحفظ حفظًا قصيدة لعدو لدود له، لدرجة أنه قد يصفق لشاعر متحذلق في منتصف إلقائه لقصيدته وينزله عن منصة الشعر بلا ندمٍ.

تحدثت عبلة الرويني عن ذاكرة دُنقل الفولاذية، والتي وجدتني لا إراديًا أغبطه عليها، فكم هويت الشعر ولكن ذاكرتي التي لا تكادُ تصون قصيدة فيها، أتعبتني وأزهدتني فيه..

وقعت في شباك قصيدته "الفارس" ومقاطع "الجنوبي" وغيرهما.

لقاؤه الأول بعبلة الرويني، شعرت وكأنُّهُ لوحة بوهيمية لقصة حب غريبة الأطوار، ولكم حزنت من تردده الطويل الذي أفقدهما سنوات كانَ يمكنهما أن يقضياها في عش هادىء بدلًا من السجال المستطال بينهما والذي مؤكد كانَ يستنفذهما بشكل أو بآخر.

فسرت عبلة سلوكيات أمل أنُّهُ كانَ يبحث عن الأمان فيها، الأمان الذي سلبه منه أقرب الأقربين حينما حرموه وأسرته من ميراث أبيه، وقبلهم أبوه الذي حرمه من أن يكون طفلًا صغيرًا يحق له أن يعاصر حياتَه البريئة... أحببتُ حينما تحدثت عن خوفه الدائم عليها، عن فخره الشديد بها وهما في جولتهما بالصعيد..

أمل هو المثال للرجل الشرقي الذي لا يعرف متَى يتخلى عن التقاليد والأعراف ليمارس حريته التي بلا حدود، ومتَى يعود إليها لكي يحافظ على أنثاه...

إنصاته الحقيقي لكل شخص يدخل حياته حتى صار مُلمًّا بكل تفاصيل المُحيطين به، وباتَ كمَا وصفه "بدر جوهر" -إذا تذكرت الاسم صحيحًا- أنُّهُ كانَ على بيِّنة بحكايات الجميع وأدق تفاصيلهم في حين لم يعرف أحد فيمَ كانَ يفكر فيه... سمع الجميع لدرجة أنُّهُ كانَ يصادق بائع الطرشي والخادمة التي استاءت حينما سكن هو وزوجته الشقة المفروشة التي اعتادَتْ أن تتاجر فيها بالعرب الذين يستأجرونها.. ثم ها هو يرفض أن تطالع عبلة ما يسمعه (مرة أخرى الرجل الشرقي).

يفتش في كل الأنحاء عن مجال جديد لقصيدة جديدة، لا يتوقف عن التنقيب، قرأ الأساطير والسير الشعبية وألف ليلة وليلة والميثولوجيا حتى يخرج بمواطن يستطيع أن يجسدها في قصائده...

أمل دُنقل في النهاية هو شاعر يوتوبي، مهمَا كانَ واقعيًا، فقد كانَ حالمًا بعالم أفضل، ولأجل حلمِهِ باعَ كل شىء، رُبما أجبرته عبلة (أو لنقل هواه بعبلة) أن ينزل درجة أو اثنتين لأرض الواقع، ولكن مع ذلك بقَى مُعلقًا.. عاشَ مأسويًا في إطار ماضٍ بعيد لم يتجاوزه منذ طفولته، وسَجَنَ نفسه فيه وهذا السجن كانَ معصر إبداعه بكل تأكيد... أحس منذ البدء أنَّ أمده في هذه الدنيَا قصير، قال "سأموت في الثلاثين" ولما لم يمت، قال "لن أصل للأربعينيات"، فأفسد الفرصة التي أعطاها له الله لكي يتوب عن التشاؤم، ولهذا حق عليه القول والمضحك أنه باتَ يتساءل أمام الجميع:

"لِمَ مرضت في هذه الفترة التي كُنتُ قد أوشكت على الحياة؟"

أتتساءل يا أمل؟ أتتساءل وأنتَ من وقعت العقد ومهرته بكل توقعاتك السيئة؟

كتاب ينتهي في جلستين أو ثلاثة لمن يهوَى سير المُبدعين أمثالي، ورغمَ علمي أن لا أحدًا مثالي، شعرت أني كنت أمام نموذج يصعب معاشرته جدًا بعدمَا وَهَبَ نفسه طوعًا لشيطان الشعر، حتَى فقدَ بسببه الكثير من اللحظات الجميلة...

والسؤال: "ما الحدود التي ينبغي للمُبدع أن يسمح لإبداعه بالتوغل في حياته قبل أن تفسد؟"

وأرجو أن أجد في هذه السير الإجابة يومًا!