أشياء ليست رائعة
تجربتي الرابعة مع الدكتور ريم البسيوني،
وبهذا يتبقى لي روايتان من النمط الرومانسي الاجتماعي
وهمَا "رائحة البحر" و"الحب على الطريقة العربية"، لكي أكون
قد ألممت بجميع رواياتها من هذا النمط.
حسنًا، أشياء رائعة،
إنها العبارة القصيرة التي نطق بها مُكتشف مقبرة توت
عنخ آمون حينما أطل برأسِهِ في كوَّة الجدار نحوَها ونحو محتوياتها، كأول ردٍّ على
من سأله "ماذا ترَى"، ليقول: "حسنًا، أرَى أشياء رائعة"!
إنها كناية عن الشعب المصري، صاحب التناقضات، والذي لا
يكف عن إذهالك باختياراته وبمساراته، بمعتقداته، وبتساؤلاته...!
الرواية عن ثلاثة أبطال: القبطان مُراد، والدكتور
حازم، والفلاحة أسماء..
لن أتحدث عن كل شخصية على حدَا، وإنما سأقارن بينهم
لكي نستطيع رؤيتهم بصورة مُنصفة،
في الوقت الذي كانَ القبطان مراد قد حاربَ في معارك
الاستنزاف المصرية شاهدًا على النكبة، وعلى مقاومتها، العاشق لتراب هذا البلد، إلا
أنُّهُ سقط سريعًا في وحل الخطيئة بتهريب المواد الممنوعة والذي أثرَى نتيجة لها،
والذي وصل لكل امرأة تمناها في أثناء سفرياته البحرية، حتى أصبح العثور على امرأة
صعبة المنال هو تحديه، حتى أصبح العثور على الخلود ولو من خلال مقبرة يتحدث عنها
القاصي والداني، هو أقصَى ملذاته...
يلتقي في بداية الرواية مع الدكتور حازم، ويتفقَا
بصعوبة شديدة على أنْ يصمم ويبني له الأخير مقبرة تكون حديث الأشهاد، لم تخطر على
قلب بشر.. ويوافق حازم، ليس من أجل المال، فهو الثري الذي لا يعوزه بضع ملايين،
وإنما من أجل أن يكون خالدًا بالمثل!
فالمهندس كانَتْ مهنة تقريبًا مُقدسة في عصر مصر
القديمة، وهو، الذي كانَ يسكن السحاب، كانَ يؤمن أنُّهُ مقدسًا كمهندس مصر القديمة...
تبدأ الفصول بمقولة للدكتور حازم، نتعرف في كل منها
على مراحل التبدلات في قلبِهِ...
فأنا أعتقدُ أنُّهُ البطل الأساسي لهذه الرواية،
فتقلباته الشعورية التي نقلته من جلف لا يبالي بالكون ما دام كل شىء يخضع لقوانينه
الخاصة، مثل أن الخادمة ستسرق هذا الأسبوع 100 جنيه، فلا بأس بوضع هذه المائة جنيه
أمام عينيها كل أسبوع وأن تسرقها، ولا بأس أن سائقه يسرق سيارته كل يوم جمعة
للالتقاء بأقرانه ما دام الدكتور حازم يعلم ذلك ويعلم أن السائق لا يغير عاداته!
الدكتور حازم الذي طلَّقَ المرأة التي أحبها، شيرين،
فقط لأنها اختارت اللون البرتقالي لسور قصرهما بدلًا من اللون الأزرق الذي كانَ
يصر عليه.
أجل، فهو الذي عاشَ حياته ملكًا على عرشِهِ، مدللًا،
طلباته مُجابة، لا تفكير سوَى تفكيره.. الذي تحسرت عليه أمه عندمَا وجدت أمامه
عشرات الفرص للعمل بعدَ الانتهاء من دراسته وقالت: "يا إلهي، إنُّهُ يعاني!"
هذا الرجل الذي لم يثر جنونه إلا خروج البشر عن
قوانينه التي صنعها لأجلهم... أجل سيدي، نحن بشر، وقانوننا الوحيد هو
"العشوائية واللاقانون"، مفاجأة، أليس كذلك؟
وضع لأسماء آلاف القوانين كسرتها هي الواحد تلو
الآخر... أنها فلاحة جاهلة، ففاجأته بأنها فلاحة أي نعم ولكنها ليست جاهلة، بل هي
الأعلم بقيمة العلم لدرجة أن كرست عالمها من أجل أن ينتسب ابنها الأصغر لمدرسة
أجنبية وابنتها الوُسطَى للجامعة الأمريكية وابنها الأكبر للسلك الدبلوماسي،
هذه التي لم يقهرها شىء، لا علاقتها البشعة بأخيها ولا
تمزق أواصرها مع عائلة زوجها الذين ينتهزون الفرص لاتهامها بسرقة الأرض، ولا
العمدة أو المأمور اللذين سعَتْ لشراء جانبهما بكل ما استطاعَتْ من مال، ولا
علاقتها السامة بزوجة القبطان، حنان، هذه المرأة السادية التي ليس لديها غال ولا
حبيب...
كسرت قانون آخر وهو يراها ترفض إغراءات القبطان لكي
تكون عشيقته ويشتري أرضها بثمن غالٍ،
كسرت قانون آخر في نفسه وهو يرَى نفسه فجأة خاضعًا
لتأثيرها ويوافق على شراء الأرض، وأن يحتكر مشروع المقبرة لنفسه على أرضها...
قانون آخر يُدك وهو يرى نفسه مهرولًا لإنقاذها من
الحرب الضروس التي شنها على القبطان مراد...
كلما سقطَتْ ضحية، نصب نفسه عامودًا لكي يعيد إيقافها
من جديد، بدون أي مقابل... قانون آخر يتداعَى!
ثم نسفت جميع القوانين جملة واحدة وهي تهرع لمكتبِهِ
مساءً، تقبل يده بشغف، وتقول: "أحبك".. لم تكن هذه هي الأزمة، فهي ليست
أولى النسوة اللاتي عشقنه، ولكن الأزمة هي أنه تزلزل لاعترافها...
تزلزل لدرجة أنه عندمَا خرجَتْ "رشا" من
حياتِهِ، لم يفكر سوَى في أنها خرجت دونَ أن تقدم له تفسيرًا معقولا للفيضان
العارم الذي اجتاحَ مشاعره جهة أسماء!
ثم لم تكتف أسماء بإنجازاتها الخارقة في بلدته التي
أحالت نهارها ليلًا، بل فجرتها بالكلية حينما قبلت إهداءه جسدها بالكامل بدون
مقابل، ورفضت أن يتزوجها مهمَا أصر، بادعاء: "أنا أم... إذا تزوجتك فقدت
مركزية الأم في حياة أبنائي!"
أثارت أسماء بكل تأكيد جنون حازم طيلة الرواية...
وكأنها في كل فصل كانَتْ تكسر له الحواجز التي تعيق تقدمه نحو البشر، فمع كل قانون
أسقطته له، كان هو يتقدم خطوات ناحية العالم الحقيقي... لهذا وجدناه يتوجه ليدير
حديثًا دافئًا مع خادمته وهو يحصل على إفطاره، وجدناه يقرر تقديم واجب العزاء مع
ابنه في والد سائقه حتى لو تكبد عناء الذهاب قائدًا سيارته بنفسه للمرة الأولى منذ
أعوام، متوجهًا لصفت اللبن (من أهم أحياء مصر الفقيرة)، ورأيناه يتفاعل مع الحياة
أخيرًا بلكم سائق سيارة الأجرة الجماعية...
الدكتور حازم قهرته فلاحة في الاربعين، أذهلته وأخرجته
عن أطواره...
انتظرت بفارغ الصبر اللقطة التي سيقبل فيها أن يأكل من
يديها... انتظرتها بفارغ الصبر ولكن الدكتورة ريم بسيوني بخلت عليَّ بها...
إذن، طرحَتْ ريم بسيوني في روايتها مسألة في غاية
الخطورة "الوتد/الأم" في الأرياف..
لقد فضَّلَتْ أسماء (التي رأيتها مخبولة) أن تحافظ على
مكانتها في حياة أبنائها كأم لا يجوز مجادلتها، والتي "ضحت ولم تتزوج رغم
وفاة زوجها وهي في الثلاثين"، هذه المكانة التي تضمن لها سيطرة تامة على حياة
هؤلاء الأطفال.. وأن تزني زنًى صريح (ومقزز) مع حازم على أرض المقبرة العتيقة
العظيمة التي صنعها... على أن تستغل هذه الفرصة التي لن تُعوض وهي أن تصير زوجة
رجلًا سينتشلها وأبناءها من الضياع.. يحبها بصدق، يؤتيها عالمًا تتمناه لعيالها...
شخصية غريبة الأطوار... بحق اعتبرتها ذلك.. خصوصًا وأن
الدنيا لا تهب هذه الهدايا بكثرة.. ولم أفهم كيف لها أن تتقبل هذه الحياة الغبية
التالية التي حاكتها لنفسها: أنها الملبوسة المبروكة التي تلبستها أرواح الأموات
والتي كُشف الحجاب بينها وبين الغيب.. بينما قلبها ينكوي كلما رأت حازم.. أتصدق
أنها ستحيا شهيدة الحب بالفعل؟ أراهن أنها ستكره أبناءها تمامًا في القادم من
عمرها على حرمانهم لها من عشقها الوحيد (طبعًا لم يفعلوا ولكنها ستؤمن بذلك لأنها
أنانية)!
أحببتُ كتابة ريم للمعارك الطاحنة التي كانَتْ بين
حازم الذي يرى الدنيا صلصال بينَ يديه، وبينَ مُراد الذي لم يكن يريد أن يضيع منه
مشروع المقبرة أو أسماء، وهذا حتَآ تفهَّمَ حازم أن الأمر أصعب لأن الفساد متاصل
في البلاد ومن يتساقط دومًا هُم البيادق الصغيرة التي بلا حول ولا قوة وليس فطاحل
وأعمدة الفساد...
رواية مليئة بالفلسفة، ولكني لم أحب نهايتها... وإن
كنت أتأمَّلُ أن حازم سيكون من الإصرار بحيث يومًا ما سيحصل عليها...
لقد تغير كثيرًا حتَى أصبح الرجل الذي يناسبها
تمامًا... خصوصا وأنه باتَ وحيدًا بالكلية بعدَ اغتراب ابنه!
أعطيتها تقريبًا 3.5/5!