في حبِّ الجنوبي، أمل دُنقل..!
هذا الكتاب الصادر عام 1991، هو في الواقع سيرة (غير)
ذاتية للشاعر المصري أمل دُنقل،
إذ تكفلت زوجته، الصحفية عبلة الرويني، بكتابته من
ألفِهِ إلى يائه.
أعتبر أنَّ هذا الكتاب إسهام غاية في الأهمية لكل من
يودُّ التعرف على هذا الشاعر الذي على حدِّ وصف زوجته "شديد الخطورة"،
ليس من الناحية الشعرية، وإنما من الناحية الإنسانية، والتي تعُتبر ناحية مُكملة
لكونِهِ شاعر.
دائمًا أحبُّ التعمُّق والغوص في نفس المُبدع المُثقف،
معرفة كيف كانَ يتعامل مع من حولِهِ، على كافة الأصعدة، أن أسبغ الطابع الإنساني
على إبداعِهِ.
ربما لهذا أحببت الكتاب وأنهيته رُبما في ثلاث جلسات
وحسب.
أمل دُنقل، بحسب كلمات عبلة الرويني، رجل صعيدي حدَّ
النُخاع، متناقض، فمن ناحية يريدُ نخر عُبب كل من حوله من أصدقاء وغير أصدقاء في
حين يستحبُّ الصمت على الكلام، يَكتُم لدرجة احتراف الصمت ويراه فضيلة..
حينما سألته عبلة الرويني لِمَ لا يخاطب أمَّه، أجابها
أنُّهما أي هو وأمه احترفا الصمت حتَى أصبح صديقهما الثالث (أكتب بتصرف طبعًا فأنا
لن أتذكر تفاصيل الكتاب).
بالطبع عرفت أنُّهُ كانَ يعاقر الخمر، وهو شىء مؤسف
لرجل والده هو الوحيد الحاصل على "العالمية" في الأزهر الشريف من
قريتِهِ، هذا العالم الذي سمَّى ابنه "محمد أمل" عندمَا حصد هذه المرتبة
الرفيعة ليكون أملًا وتفاؤلًا في هذه الدنيا.
عاش أمل بداياته مُقبلًا على الدين، لدرجة أنه عشقَ
التردد على المسجد والخطبة،
لهذا بالتأكيد أنْ يصير شاربًا للخمر، فهذا أمر حقًا
جرح قلبي..
لولا أنه ينبغي التيقن أنَّ أحدًا غير مثالي في هذه
الدنيا.
تعرفت على جوانبه السلبية مثل عصبيته لدرجة الإطاحة
بالأشياء في الشجار، صريح لحدِّ الوقاحة. وقد جمَّلَتْ عبلة هذه الخصلة بالقول
أنُّهُ يستخدم هذه الصراحة الفجة من أجل الغور في أعماق من أمامه، فقال لها في
لقائهما الأول "أتحبين البثور على وجهِكِ؟" ولآخر "أهلًا يا أعرج"!
صاحب كبرياء عالية، لا يمكن لأحدٍ أن يجرحها له،
بالطبع شىء مُميز أن يكون الإنسان أبيًا لا يُشترَى
بالمال مثلما كانَ أمل دُنقل الذي لم يستطع أحد أنْ يستقطبه لجانبِهِ لا بمناصب أو
بأموال.
ولكن ماذا عن أنُّهُ عاشَ فقيرًا وعذَّبَ نفسه وزوجته
بهذه الحياة المُعدمة في حين كانَ لديه الفرصة مرارًا ليعمل ويكسب قوت يومِهِ.
للأسف أراه شخصًا غير مُتحمل للمسئولية، فوضوي لا
يستطيع أنْ يصنَعَ مصدرًا مؤمنًا للدخل..
المُبدع شىء جميل ولكن الأجمل أن يكون رجلًا يصنع
لزوجته عشًا مستقرًا وليس أعشاشًا مُضطربة يمكن القضاء عليها في أي لحظة.
للأسف لم أرَ أي مزيَّة في أنُّهُ لم يكن يعمل ويعوِّل
على راتب زهيد يقرب الثلاثين جنيهًا فقط، يستيقظ ظُهرًا، لا يفعل شيئًا سوَى
الجلوس على المقاهي ويبحث عن أيقونات لقصيدته،
لا يمكن للمُبدع أن يكون بهذه الغوغائية والهوائية...
خاصة لو صار زوجًا!
لم تتحدث عبلة الرويني عن اختياراتهم قط حول الإنجاب،
ربما لأنُّهُ مرضَ مباشرةً بعد الزواج، ربما بعد أشهر قليلة..
كم تألمت وهو ينتظر معونة الدولة لكي يستطيع إكمال
علاجه.. شىء مؤسف أن تجعل حياتك على المحك بسبب استهتارك!
أعجبت برأيِهِ حول جمال عبد الناصر أنه لا يستطيع أن
يدعم من يعتقل المُفكرين، فالحرية كانَتْ محور حياته التي تدور حوله مفتشًا عنها
في جميع الأنحاء.
عرفت عن علاقته بالكاتب يحيى طاهر عبد الله، وعن صلاح
عبد الصبور (وحادثة وفاته بعدمَا اتهمه بهجت ثروت الرسام بجريدة الأهرام بأنُّهُ
باعَ القضية بتقلده منصبًا سياسيًا) وعن يوسف إدريس وعن حجازي، وغيرهم. في الحق
هذه المقتطفات كانَتْ غاية في التميز.
تحدثت عبلة الرويني عن "الغرفة 8" في معهد
السرطان، وصفتها لدرجة أني رأيتها أمام عيني، هذه الغرفة المليئة بالحبِّ، المُطلة
على النيل، التي لا تتوقف عن استقبال أكثر من 20 زائرًا كل يوم.
يعشق أمل دُنقل الشعر حتى لم يعد يعتبره هواية، بل هو
الحياة بأسرها وهو خادمه الأمين الذي يسير وفقما يملي عليه هذا الشعر، لدرجة أنه
قد يحفظ حفظًا قصيدة لعدو لدود له، لدرجة أنه قد يصفق لشاعر متحذلق في منتصف
إلقائه لقصيدته وينزله عن منصة الشعر بلا ندمٍ.
تحدثت عبلة الرويني عن ذاكرة دُنقل الفولاذية، والتي
وجدتني لا إراديًا أغبطه عليها، فكم هويت الشعر ولكن ذاكرتي التي لا تكادُ تصون
قصيدة فيها، أتعبتني وأزهدتني فيه..
وقعت في شباك قصيدته "الفارس" ومقاطع
"الجنوبي" وغيرهما.
لقاؤه الأول بعبلة الرويني، شعرت وكأنُّهُ لوحة
بوهيمية لقصة حب غريبة الأطوار، ولكم حزنت من تردده الطويل الذي أفقدهما سنوات
كانَ يمكنهما أن يقضياها في عش هادىء بدلًا من السجال المستطال بينهما والذي مؤكد
كانَ يستنفذهما بشكل أو بآخر.
فسرت عبلة سلوكيات أمل أنُّهُ كانَ يبحث عن الأمان
فيها، الأمان الذي سلبه منه أقرب الأقربين حينما حرموه وأسرته من ميراث أبيه،
وقبلهم أبوه الذي حرمه من أن يكون طفلًا صغيرًا يحق له أن يعاصر حياتَه البريئة...
أحببتُ حينما تحدثت عن خوفه الدائم عليها، عن فخره الشديد بها وهما في جولتهما
بالصعيد..
أمل هو المثال للرجل الشرقي الذي لا يعرف متَى يتخلى
عن التقاليد والأعراف ليمارس حريته التي بلا حدود، ومتَى يعود إليها لكي يحافظ على
أنثاه...
إنصاته الحقيقي لكل شخص يدخل حياته حتى صار مُلمًّا
بكل تفاصيل المُحيطين به، وباتَ كمَا وصفه "بدر جوهر" -إذا تذكرت الاسم
صحيحًا- أنُّهُ كانَ على بيِّنة بحكايات الجميع وأدق تفاصيلهم في حين لم يعرف أحد
فيمَ كانَ يفكر فيه... سمع الجميع لدرجة أنُّهُ كانَ يصادق بائع الطرشي والخادمة
التي استاءت حينما سكن هو وزوجته الشقة المفروشة التي اعتادَتْ أن تتاجر فيها
بالعرب الذين يستأجرونها.. ثم ها هو يرفض أن تطالع عبلة ما يسمعه (مرة أخرى الرجل
الشرقي).
يفتش في كل الأنحاء عن مجال جديد لقصيدة جديدة، لا
يتوقف عن التنقيب، قرأ الأساطير والسير الشعبية وألف ليلة وليلة والميثولوجيا حتى
يخرج بمواطن يستطيع أن يجسدها في قصائده...
أمل دُنقل في النهاية هو شاعر يوتوبي، مهمَا كانَ
واقعيًا، فقد كانَ حالمًا بعالم أفضل، ولأجل حلمِهِ باعَ كل شىء، رُبما أجبرته
عبلة (أو لنقل هواه بعبلة) أن ينزل درجة أو اثنتين لأرض الواقع، ولكن مع ذلك بقَى
مُعلقًا.. عاشَ مأسويًا في إطار ماضٍ بعيد لم يتجاوزه منذ طفولته، وسَجَنَ نفسه
فيه وهذا السجن كانَ معصر إبداعه بكل تأكيد... أحس منذ البدء أنَّ أمده في هذه
الدنيَا قصير، قال "سأموت في الثلاثين" ولما لم يمت، قال "لن أصل
للأربعينيات"، فأفسد الفرصة التي أعطاها له الله لكي يتوب عن التشاؤم، ولهذا
حق عليه القول والمضحك أنه باتَ يتساءل أمام الجميع:
"لِمَ
مرضت في هذه الفترة التي كُنتُ قد أوشكت على الحياة؟"
أتتساءل يا أمل؟ أتتساءل وأنتَ من وقعت العقد ومهرته
بكل توقعاتك السيئة؟
كتاب ينتهي في جلستين أو ثلاثة لمن يهوَى سير
المُبدعين أمثالي، ورغمَ علمي أن لا أحدًا مثالي، شعرت أني كنت أمام نموذج يصعب
معاشرته جدًا بعدمَا وَهَبَ نفسه طوعًا لشيطان الشعر، حتَى فقدَ بسببه الكثير من
اللحظات الجميلة...
والسؤال: "ما الحدود التي ينبغي للمُبدع أن يسمح
لإبداعه بالتوغل في حياته قبل أن تفسد؟"
وأرجو أن أجد في هذه السير الإجابة يومًا!
No comments:
Post a Comment