الفصل الثانى
(وصارت النهاية .. بداية!!)
والتقط ماكبيث البلطة من يدها الممدودة، ومن
فوره، عمد إلى حجرة الملك المعظَّم حيث كان يهنأ بنوم مريح. وفيما هو سارٍ هكذا فى
خفى الليل الداجى، بدأت تتمثل فى عقله بلطة أخرى، اختلف حالها عن تلك التى بحوزته
وإن تظل بلطة! كان مقبض البلطة موجها شطره، ودماء ما تسيل من نصلها.
(أيكون ما أراه أمامى هذا .. بلطة؟!)
حاول اخترام
تلك البلطة، لكنه لامس فراغا. فقد كان يخيل إليه وجود هذا السلاح الفتّاك، أنشأ
يشعر بتعطل فى عقله، وشلت حركته، وهو يهمس:
(لا تستمع دانكان، إنه ناقوس النعى الذى يرن، ويفتدى بك
إلى الجنة أو الجحيم!)
وبخطوات
وئيدة، كان ماكبيث ينسلّ إلى الصرح المحرم للملك. وبأعصاب ترسب عليها الران لبرهة،
كان الملك صريعه، والروح المرفرفة عاليا، تلعن القاتل شر اللعنة. لف الصمت المقبض
المكان، ما من ضجة علت، ولا شىء تنفس صارخا، مجرد صيحات بوم نعقت بالخارج. تهيأ له
سماع صوت آخر يستغيث، يهتف، مدينا:
(لا نوم .. ماكبيث جنى على نائم ..)
وتابع الصوت
مصرحا:
(لا نوم .. جلاميس قتلت نائما، وكوادور لن تنام بعد
الآن، ماكبيث لن ينام بعد اليوم!)
لبثت اللايدى
خارج مخدع الملك، تنتظر النبأ البيّن من زوجها، انتابتها الهواجس بشأن شجاعة
ماكبيث. لذا كانت قلقة، ولمّا شاهدته منطلقا من الحجرة، صرخت بتأثر:
(زوجى!)
ارتعش ماكبيث
كدأب من يحتضر. لذا، دفعها منفضا عنه تلك اللمسة منها على ذراعه، وهو يزمجر بألم:
(لقد ابتغيت الغاية .. ونفذتها!)
نظر إلى يديه
الجانيتين بحسرة وتندم يستر كل انفعالاته، فكان يقبض على بلطتين، أنصالهما تنضح
دماء!
(إنه منظر شنيع!)
لكن تلك
عديمة الرحمة، استنكرت ببرود:
(إنه لجبن حقيقى أن تصفه بالمنظر الشنيع ..)
فمن وجهة
نظرها، إن ماكبيث لم يقترف سوءً اللهم إلا اعدام ذلك الرجل العجوز، ليغدو ملكا!
لكن اختلفت النظرة لدى ماكبيث، فالقتل إنما هو ضد مبادئه، ومخالف طبيعته النقية.
إنه -يؤمن- قد استباح لنفسه القضاء على براءة نائمة، إنه قتل سمعته، بل عظم عليه
الأمر، ليعتبره قد خنق روحه هو! إنه .. لم يعد مرة أخرى بشريًا! كان فى حال يرثى
له من الاكتئاب المسيطر. ولهذا، ظلت البلطتان فى يديه، فلمّا وقع بصرها عليهما،
عقبت بسرعة:
(لماذا أحضرت تلكما البلط معك من الحجرة؟!)
لتستحضر
قوتها صارخة:
(اذهب وضعهم بجانب الحراس!)
لكن ماكبيث،
صاح بخيبة:
(لن أذهب إلى هناك ثانية، أخشى النكوص إلى هناك فأشهد
على جرمى غير المغفور، لن أتجسر على رؤية الملك الميت مرة أخرى!!)
تعجبت بغضبة
حارقة، وهى تحسب به العزيمة المحجمة، وانتزعت البلط بنفاد صبر، وهى توضح:
(اعطنى البلط، الميت والنائم لا شىء إلا صور!)
غايرته وحيدا.
الآن، فإن أياديها قد طالها الإثم ذاته:
(والآن، إن أيادي تلونّا بنفس لونك .. لكننى خجلة أن
أرتدى قلبا أبيضا!)
هكذا قالت وهى
تتمعن فى يديها اللذين تفركهما ببعض:
(بعض الماء تنقينا من هذه الغاية!)
وحلّ الصباح،
ومعه أعلن الخبر الصاعق، عثر على الملك مقتولا! أبدى ماكبيث وزوجه المصون المضض والحرقة
على رحيل الملك، وأن الحراس هم من ارتكبوا هذه الجناية. لكن، لم يكن الشعب بالجائر
غير الحسيب، بل إن جل الشعب إن لم يكن كله، أجزم أن ماكبيث هو المجرم الحقيقى، فهو
من ملك السبب الأحق لقتل الملك أكثر من الخدم! فيما ابنا الملك، فرّا من القلعة
بسرعة برق ساطع فى السماء، فالأول "مالكولم" نفر إلى إنجلترا، والآخر
"دونيالبيان" إلى أيرلندا.
حينما انقشع
الولدان من سماء سكوتلاندا، وهما من يجدر بهما أن يتسلما مقاليد الحكم، صار ماكبيث
هو الملك. الآن، نبوءة الساحرات، بحذافيرها قد تمت له، والحبة التى زرعنها فى قلب
ماكبيث قد نمت وانتشرت فى هذا المكان المظلم: إنه ارتدى التاج، واعتلى العرش.
لكنهما مع ذلك، خضعا لتفكير جهنمى آخر، فلم ينسيا قط الكلمات الأخرى للساحرات، لقد
قلن أن ربما سيكون ماكبيث الملك، لكن أبناءه لن يكونوا ملوكا من بعده؛ بل أبناء
بانكو هم من سيسطون على الملك من بعده. هذا الهاجس، مع الآخر الذى يذكرهما دوما
بفعلتهما المنكرة التى ستجعل أبناء بانكو دوما الأفضل، حمّى الوطيس فى قلبيهما.
فوقف رأيهم فى النهاية أنهم سيتخلصان من بانكو وابنه.
عقد الزوجان
عشاء كبيرا، كل الشخصيات المرموقة فى المجتمع تناولوا دعوة ذلك العشاء، ومن ضمنهم
بانكو وابنه فليانس. إلا أن القتلة المجرمين كانوا على الطرقات التى كان بانكو
ليسلكها إلى القلعة. و قد أعطاهم ماكبيث الأوامر أن يفنوا بانكو وابنه. وقد رافقهم
التوفيق فى تنفيذ الأمر على بانكو، إلا أن أخطأهم التوفيق فى ابنه الذى قدر له
الاله أن يهرب. وخلال العشاء، كانت الملكة ذات أناقة مبهرة، ولباقة فاتنة، أثارت
إعجاب كل الموجودين. وماكبيث يميل على ذاك فيحاوره بشأن أمر من الامور، ويجنح على
آخر، فيطيب خاطره. وفى كل الحوارات، تنكَّه صوته بالسعادة، وأطلعهم أن كل مهم فى
اسكتلاندا، موجود فى العشاء عدا صديقه الحميم بانكو والذى يأمل أن يكون متأخرا لكن
يحضر قريبا.
ولعجبه، فيما
كان يبوح بخوالجه المداهنة المنافقة، لاح طيف صديقه بانكو قادما إلى الحجرة، وتقعد
المطرح الذى كان ليملأه ماكبيث، وبرغم شجاعة ماكبيث، إلا أنه إزاء رؤيته لهذا
الطيف، تلاشت كل ما به من قوة، واربد وجهه ببياض ارتعاب، وتصلب واقفا، وعيونه لا
تحيد عن الطيف. همست الملكة لدى رؤيته بهذا الشكل المريب، وابتسامة جميلة مرسومة
على وجهها للمدعوين المتسائلين:
(لماذا تقوم بتلك الانفعالات؟ عندما يتم لنا كل شىء ..
لتنظر ولو على كرسى عال ..)
أما اللوردات
الآخرون، فلأنهم لا يقفون على أثر هذا الطيف، فحسبوا أن ماكبيث إنما يشغف بالنظر
إلى كرسى خاوٍ. لكن ماكبيث، ما عبأ بأى من تلك النظرات المستهجنة اللافة إياه، واستبقى
الحوار مع الطيف، وكانت كلماته غاية فى الغرابة، لولا أن احتفظ بمغزى. لم تكن
الزوجة ولا غيرها ليضمِّن هذا الطيف إلى لائحة الأشياء المرئية، إنما أتى هذا
الطيف بدعوة لأجله فحسب، لأجل ماكبيث لا غير. وظعن الطيف بهدوء مثلما تهادى قادما،
وتشافى ماكبيث، ورجعت البسمة تشرق على ثغره، لكن ليس طويلا. انتهى الحفل، ورحل
الضيوف محتارين، فماكبيث سرعان ما تداعت حالته، وصارت الملكة حزينة، ومثقلة القلب
بالهموم الكثيرة. تمتم بمرض:
(إنه ليكون هناك دماء .. هكذا يقولون .. والدماء سيكون
لها دماء!!)
ولأن الملكة
فزعت من خاطرة أن يكتشف اللوردات أن بانكو قد لاقى حتفه، كانت تطلب من المدعوين،
والأسف يغشاها من أعلاها لأسفلها، الرحيل لأجل مسمى! وأعلنت أن تصرفات زوجها غير المعهودة
إنما يرجع سببها إلى مرض يعانيه أحيانا. لكن هذا التصرف غير المبرر، جعل اللوردات
الحذاقى، يدركون أن ماكبيث يحمل فى طيات قلبه سر، وإنه لسر مخجل مشين. اكتظ عقل
ماكبيث بمختلف المخاوف، وتلاعبت به عقارب الفزع، زارته هو وصاحبته فى الفراش
الكثير من الأحلام، أضغاث أحلام مهلكة، طاحنة، غالبا ما يستفيقان منها محتضرين!
توترت
أعصابهما لدى موت بانكو وهرب ابنه، إنما الآن يريا فليانس قد أصبح أبا لأطفال
سيصدون أبناءهما هما عن التملك بالملك. ورست سفينة تفكير ماكبيث مؤخرا عند مرسى
أهمية إيجاد الساحرات من جديد، فيسألهن عن أسوأ ما يمكن أن يدور عليه. وبحث مطولا،
فجاب الأوطاد، و صاد فى المحيطات، حتى عثر عليهن أخيرا فى كهف نائى، يعتكفون على
أدواتهن، بهيئات مثيرة للقشعريرة، تستك لها الآذان، و تقف لها الشعور. كنّ يستدعين
أرواح الموتى، والذين ليتمكنوا من اخبارهن بالمستقبل!
(تحدثن بالمزيد .. للآن، أنا منحنى كى أعرف بأسوأ الطرق
عن الأسوأ!)
إنهن كنّ فى
انتظاره، أجل ، تماما كما كنّ فى انتظاره فى المرة المنصرمة، لقد علمن بقدرتهن
السحرية أنه ليعود من جديد! بدأن يخلطن أشياء فظيعة معا فى إناء كبير. بدأن
بالوطاويط، والثعابين، فالنباتات السامة القاتلة، وعين بومة، ولسان كلب، مع ساق
سحلية، وجناح بومة، وإصبع طفل ميت. من ثمّ، طفقن يحرّقن تلك الخلطة حد الغليان،
ولمّا حدث ذلك، أنشأن يبردنها، بدماء قرد.
(الضِعْفَ، ضِعْفَ المصائب..)
وأخذن يضربن
الحجرة المظلمة جئية وذهابا بغية إرهابه وفيما هن يفعلن هكذا، كن يقلن أنهن على
مقدرة لجعل الأرواح الميتة تجيبهن على أسئلتهن. استفهمن من ماكبيث إن بغى إن يرددن
عليه بأنفسهن، أم الأوراح؟! لم يهلع ماكبيث حتى تلك الساعة من رؤية تلك الأشياء
المخيفة، فتصلبت ملامحه، وتكورت قبضة يده، وجحظت عيونه لخطورة الموقف وهو يطالب
بإصرار:
(أين هى تلك الأوراح؟! دعينى أراها ..)
ومن فوره،
كانت ثلاثة أرواح قد مثلت أمامه بتحدِّى فاقد الحماسة، او الحياة، مجرد هلام. أولى
الأرواح، كانت على شكل رأس وذراعين، وبصوت غير بشرى باهت حد التلاشى، كانت تطبق
على أنفاس ماكبيث من موقعها، وتقول:
(ماكبيث، ماكبيث، ماكبيث، أوعى لماكداف .. لورد فيف ..)
شكرها
ماكبيث، فقد كان بدوره يخشى من هذا الماكداف، لورد فيف، لكنه لم يبدِ اى من تلك
المشاعر على سيماءه، وأبقاها فى شغافه حية ترزق. والثانية، فكانت طفلة ملخطة
بالدماء، ذات ملامح غامضة، وشعر ملتصق بغرى الدماء على الوجه، والشفاه المتيبسة
بيضاء كالرخام، والعيون لا تحدد اتجاهات، مجرد تدور فى مقلتيها بغير هدف! فتهمهم:
(ماكبيث .. ماكبيث .. ماكبيث .. كن دمويا، أقرعا، مصمما
.. لأن لا أحد مولود لامرأة يقدر على أذية ماكبيث!)
استرعت تلك
الإجابة على ذهنه، ليصرخ مخافة انقشاع تلك الروح قبل الرد:
(إذًا، لماذا علىّ أن أخشى من ماكداف؟!)
لكنه، استعاد
اتزانه بعد تنحنح، وجالت عيونه على الساحرات النافدات الملامح، واستقام واقفا يعدل
من وضعيه السيف فى حزامه، وكشأن من سيدبر حاله، كان يقرر:
(لكننى سأنتبه إلى أن أكون بأمان دوما .. إنه لن يحيى!)
ومن العدم،
كانت الروح الثالثة، والتى كانت فتاة جميلة، ذات تاج مكلل رأسها المكسو بشعر أشقر
ذهبى هزيل، وتقبض على جذع شجرة، وتطالع ماكبيث بخيلاء ذكرته بالآثام التى حاقت
عليه:
(ماكبيث لن يُنهزم حتى تتحرك غابة بيرنام فى تل دانسينان
إليه ..)
ليصيح
ماكبيث، والكبرياء يسجيه:
(وهذا لن يكون ابدا!)
ليتابع، وابتسامة
فخر مختالة تزهو على وجهه، فتجعله أكثر وحشية وأقل إنسانية، وتزيد من إجرامه:
(كلمات جميلة .. جيدة .. من يقدر على تحريك غابة! إذًا،
لأعيش بمقاس عيشة إنسان طبيعى، ولأموت موته غير عنيفة .. ما أسعدنى .. لكن ..)
وانطرحت
الابتسامة أرضا، فاختفت بسرعة ظهورها، وسؤال آخر ينشب مخالبه:
(لكن لدى سؤال آخر .. أفعلا يمكن لأبناء بانكو أبدا أن
يحكموا فى تلك المملكة؟!)
وفى صوت
واحد، بنغمة معذبة واحدة، وهتاف يجلجل يضم الأرواح الثلاث:
(ابحث ولن تعرف أى شىء آخر!!)
وبين إغماضة
جفن وانتباهته، كانت تلك الأرواح تسلك سبيلا خفيا، لا ترجع منه قط، فتتبدد كأن لم
تكن. واستحال الجو مشحونا بموسيقى غريبة، موسيقى مزعزعة للثقة، ومهلهلة للإرادات.
وثمان ظلال كالملوك، اجتازوا ماكبيث بزهو، ويذيلهم بانكو، وكان يقبض على مرآة حيث
لاح منها المزيد من الظلال الشابهة لملوك. ابتسم بانكو لماكبيث، مشيرا إلى تلك
الظلال، وهنا، تعرَّف ماكبيث عليها: أنهم ذرية بانكو، والذين ليمسكون بزمام الأمور
فى اسكتلاندا من بعده. وكما الصواعق التى تظهر فتختفى، ولا تحديد لوقت بين الظهور
والاختفاء، كان كل شىء يزول ويفنى. ومن هنا، لم يبقَ لماكبيث إلا الوساوس والغلائل
كى تصم روحه.