Saturday, August 17, 2024

ميدان تيانامين وسؤال المقاومة (نُشر فى جريدة النُخبة فى نوفمبر 2019)

 

"ميدان تيانامين وسؤال المقاومة"



يختص علمُ السياسة فى أصوله ب"السلطة السياسية"، وكل ما يتعلق بها، وبالأساس مسائلتها، والتعرف على ثوابتها، بل وكذلك معرفة أشكال مقاومتها فى بعض الأحيان إذا استلزم الأمر. وقد عرفت الصين منذ قديم الأزل نظمًا فى غاية السلطوية، تكادُ لا تعطي الشعب أي فسحة من الحرية. ولولا حادثة "ميدان تيتانيام فى 1989"، لما احتسب للشعب الصيني أي محاولة للمقاومة. وعلى الرغم من إخفاقها، وانتهائها بأرقام هائلة من الضحايا نتيجة اجتياح قوات النظام للميدان وتشتيت الثائرين، إلا أنَّه -بالنسبة إلى بعض المفكرين السياسيين أمثال أندريجا زيفنيك"، هو الشكل الأصيل للمقاومة.

فى تحليل زيفنيك للشكل الأصح للمقاومة، فقد استعان بنظرية جورجيو أجامبين عن "الحياة العارية"، ونظرية جاكس لاكان عن "سياسة الأيًّا ما كان Whatever politics"، و"بقاء الأيًّا ما كان Whatever beings". يرى أجامبين، أنَّ من يحملون المقدرة على مقاومة السيادة والنظام، لا بد أن يكون لديهم "bare lives" أي حياة عارية من الحماية القانونية والسياسية، هي "الاستقصاء المتضمن". فقد تم إقصاؤهم من الحياة السياسية وليس لهم حماية قانونية أو سياسية. وإنُّهم يظلون متضمنين لأنُّهم نتاج قوة السيادة السياسية التي أقصتهم. الحياة العارية هي حياة غير سياسية، بلا قوة ولا يمكنها توجيه أي تهديد للنظام القائم. ونتيجة للانتهاكات التي تعرض لها الصينيون فى حريتهم، فإنُّهم انطلقوا إلى الميدان من أجل المناداة ببعض الديمقراطية والحرية من الحزب الصيني الحاكم. وفى نظرية أجامبين عن الحياة العارية، فإنّهم أصبحوا عراة حينما قامت الحكومة بإقصائهم ونزع الحماية القانونية والسياسية عليهم.

ومما أكَّدَ عليه لاكان لتكون المقاومة مضبوطة، فإنَّ على المقاومين أن يقوموا بفعل "act" من أجل الوصول إلى حدث "event" -وهو النقطة التحولية فى التاريخ ليؤدي إلى انهيار نظام معين وبناء آخر-. كما أنَّ هناك "مرور الحدث"، وهي عملية انتقال الفرد من وضعية كونه موجود فى النظام القائم، إلى كونه متحررًا من جميع الخطوط المفروضة عليه. وبنجاح هذه العملية، يُخلَقُ "البقاء الأيًّا ما كان"، وهو الإنسان الذي قطع انتماءاته بهويته ومزق كل الروابط الاجتماعية التي تربطه بالآخرين. والمقاومة هي "المطالبة بالبقاء أو demand of being". وليست بالأمر السهل، لأنَّها تستدعي مطالبة النظام بشىء قد يؤدي إلى موته فى حال استجابته له.

وبالنسبة إلى زيفنيك، فإنَّ الثوار فى ميدان تيتانيام، تحوَّلوا بعد الحياة العارية إلى القيام بفعل "النزول إلى الميدان" من أجل حدث "تغيير النظام"، وقد حاولوا تكسير كل السلاسل التي تكبلهم من النظام الحاكم (مرور الحدث)، وتحوَّلوا إلى البقاء الأيًّا ما كان حيث دمروا كل الروابط الاجتماعية فيما بينهم ولم يبقَ إلا مطالبتهم ببعض الأمور التي فى حالة استيفاء النظام الحاكم لها، فإنُّه يتداعى. فالحرية والديمقراطية وعدم الفساد مطالب تتناقض مع أسس هذا النظام كليةً. وهذه هي سياسة "الأيًّا ما كان" التي نطق بها لاكان. ومع تجاهل النظام لمطالبهم، ازدادت الحياة العارية، وتحولوا أكثر إلى الكائنات الأيًّا ما تكون تلك، وخفتت حدة روابطهم مع النظام وكذلك مع بعضهم البعض.

أمَّا لماذا أخفقت التظاهرات فى تيتانيام رغمَ أنَّها -بالنسبة إلى زيفنيك- كانت تمثل النموذج الأنسب لنظريتي أجامبين ولاكان عن المقاومة، فذلك لأنَّ النظام الصيني الحاكم كان جامدًا بشدة، بحيث لم يعبأ سوى باستقراره ولم يهتمْ بالثوَّار، ولم يجد غضاضةً فى استعمال العنف المدمر والتدخل العسكري فى الميدان. ومن هنا، مع هذا العنف الرهيب، فقد مات من قاوم، ومن لم يمت، فإنُّه عاد ليرتبط مرةً أخرى بصورة درامية مع النظام الحاكم من جديد، ويغطي حياته العارية بستار النظام. وعلى حدِّ قول زيفنيك فى مقاله: "وخلال الأيام والأسابيع التالية على الحملة، فإنَّ الحزب الصيني الشيوعي استعاد قوته السياسية وظهر أقوى مما كان[1]".

إذن، فالمقاومة هي شكل من أشكال الرغبة فى تغيير النظام القائم. لكنّها ليست فعلا عشوائيًا أو اعتباطيًا، بل إنَّها عملية منظمة، تبدأ من الحياة العارية والتحوُّلِ إلى كيان غير سياسي لا يخضع للحماية السياسية أو القانونية للنظام، وينتهي بالفعل والحدث ومرور الحدث، والمطالبة بما لا يستطيع النظام أن يتحمله من أجل أن ينهار. لكن السؤال الدائم الذي يثور فى رؤوسنا بعد حادثة تيتانيام، هل كان النظام الصيني شديد الدوجماتية فعلا بحيث لم تنفع معه هذه الصورة الحرفية للمقاومة، أمَّ أنَّ نموذج المقاومة لم يكن قويًّا كفاية ولا بد أن يتضمن شيئاً إضافيا لكي ينجح؟

بإمكانكم قراءة المقال فى عدد الجريدة: http://www.feps.edu.eg/images/elite/13/issue13ar.pdf، ص10



[1] Andreja Zevnik, "Sovereign-less Subject and the possibility of Resistance", Journal of International Studies, Vol. 38, no. 1, 2009 pp. 83-106

الليبرالية من وجهة نظري

 

"الليبرالية من وجهةِ نظرى!"



الليبرالية هى أيدولوجيةُ العصرِ التى حققت انتصارَها المؤقت على الأيدولوجية المعادية، "الشيوعية" فى نهاية الحرب الباردة مع بداية تسعينات القرن الماضى. على التطورات التى مرَّت بها الليبرالية، ما بين الليبرالية الكلاسيكية إلى الليبرالية الحديثة، ومع الاختلافات التى أضافتها كل حقبة على هذه الأيدولوجية، فإنَّ ركائزها لا تزال تقريبا واحدة. على نحوٍ مختصر، تُشَيَّدُ الليبرالية على مفاهيم كما: "الفردية"، و"المصلحة الذاتية"، و"النزعات الرشيدة"، و"الحرية" –بمشتقاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية-، و"الفرص المتساوية للنجاح"، و"الدستورية وحقوق الإنسان"، و"التسامح"، و"الانفصال بين الفضائين العام والخاص"، و"الموافقة والعقد"، وغيرها. وليس محلُّ المقال هو تقصِّى هذه المفاهيم ومعانيها بقدر ما هو نظرة نقدية لها وللأيدولوجية كاملا.

بالنظر إلى الليبرالية، فهى تُعَدُ فى نهاية المطاف، أيدولوجية "رد الفعل" أو "رجعية" صُنِعَت من أجل إنهاء العهد حيث كان الفرد مقموعًا بأدوات الدولة والكنسية. وسعت هذه الأيدولوجية إلى استرجاع حقوق الإنسان مرةً أخرى إليه، وإلى عدم فرض أى صورة من صور القمع أو الكبت من أجل وهبه المساحة المحتاج إليها للإبداع، والخيال، وإعادة بناء الكون من جديد. وكان معقولا بالطبع لمناصريها أن يميلوا إلى فكرة أن "الإنسان رشيد" لمعارضة ومناقضة جمل "الخطيئة الأصلية وسقوط الإنسان" والتى تم استخدامها لجعل الأفراد غير واثقين من قدراتهم الذهنية، وبالتالى، يبقون فرائس تحت سلطة قساوسة وإمبرطورات ذلك العصر. وهذا بدا متجليًّا فى مفاهيم "الحرية الاجتماعية"، و"الدستورية"، و"التسامح" وغيرها مما تنادى بهم الأيدولوجية.

مع ذلك، فإنَّه من القيِّم ملاحظة أن هذه الزيادة فى الحرية لها مآخذها كما ال"الانعزال" الذى لسوف يحققه الانفصال بين الفضاء الخاص والفضاء العام، وكذلك قبول كل أشكال التصرف مهما كانت لا أخلاقية، والرضاء مع عدم المساواة الكثيرة التى سيلدها السوق الحر. فضلا عن ذلك، فإنها ستختزل الفرد فى شىءٍ مهتم بمصلحته، والذى لا يعبأ مثقال ذرة بالخير المشترك. وهذا سوف يحطم الروابط المجتمعية لأن العمل من أجل مصلحة كل إنسان وحده، بالتعويل على الصحة المطلقة لرشادته –والتى هى ليست صحيحة على الدوام- ستجعل من أى عمل جماعى شيئا متعذرا إذ أنَّ كل خطوة ستُعَلَّقُ على "مَنْ مِنَ الأَفْرَادِ يستشعر أن بقاءه ومصالحه مهددان بحيث يقبل المشاركة بقدراته؟!". بالإضافة إلى ذلك، فإنه كما هو مشاهد فى أغلب المجتمعات الليبرالية، حيث يعيش الأفراد من أجل مصالحهم فحسب، فإنَّهم يصلون إلى نقطة يفقدون معها الاهتمام بأى شىء، مما يدفعهم إلى الانتحار. وبكل تأكيدٍ، فإنَّه من غير المصدق به أن ذلك ليؤسس مجتمعا سليمًا.

فيلم عيد الميلاد الأخير والتعددية الثقافية (نُشر فى مجلة النُخبة فى سبتمبر 2020)

 

فيلم (عيد الميلاد الأخير)، والتعددية الثقافية



    يمكن القول أنَّ الثقافة هي القيم والأهداف والسلوكيات المتشاركة والتي تصنعُ الجماعة الثقافية. وتأتي أهميتها من أنَّها تغطي أوجه عديدة من حياة الإنسان وتشكل وجهة نظره حول نفسه وحول علاقته بالآخرين. وقد أصبحَتْ كيفية مخاطبة الدول للأقليات الإثنية والثقافية داخلها شىء مهم. فالعصر الحالي يمكن تسميته بعصر "سياسة الهوية". وذلك بسبب مطالب الأقليات بشىء من الاعتراف الرسمي واستيعاب حقوقهم اللغوية والاستقلال الذاتي الثقافي أو الديني، والحكم الذاتي الإقليمي أو المزيد من التمثيل السياسي. وتقومُ سياسة "التعددية الثقافية" على تحديد طريقة لاحتواء هذه الاختلافات الثقافية والإثنية فى التنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

   وقد تعدَدَتْ الاتجاهات النظرية المتعلقة بسياسة "التعددية الثقافية". ومن أهمّ هذه الاتجاهات هو "سياسة اللامبالاة" التي قدَّمها المفكر الليبرالي "تشاندران كوكاثيس". بناءً على هذه السياسة، فينبغي على الدولة عدم الاعتراف بالاختلافات الإثنية والثقافية. وذلك لأنَّ فضيلة الليبرالية هي "تسامحها مع التنوع" و"عدم وجود دوغماتية أخلاقية فى عقيدتها". ومن ثمَّ، فهو يرى أنَّ على الدولة الليبرالية ترك الناس أحراراً فى تحقيق أهدافهم سواء بصورة فردية أو من خلال جماعات. ويكونُ دور الدولة هو تقديم السلام والنظام الضروري لتحقيق هذه المشاريع. لكنَّها لن تكونَ مسؤولة عن نجاح أو فشل هذه الجماعات فى تحقيق هذه الأهداف والمشروعات.

   فى هذا الصدد، يأتي فيلم "الكريسماس الأخير" كتطبيق على هذا الاتجاه. يبدأ الفيلم ب"كاترينا" التي ترجو أنْ تكونَ مغنية، وتعمل فى متجر لبيع مقتنيات عيد الميلاد. خلال الجزء الأول من الفيلم، تبدو هذه الشابة مهملة ومستهترة، ومكتئبة. دائماً تقومُ بافتعال المشكلات لجميع أصدقائها وتؤذي أسرتها، وعلاقاتها العاطفية غير مستقرة. ونعلمُ أنَّها على هذا الحال منذ إجرائها لعملية "زرع قلب". وهذا حتى تقابل شخصية "طوم"، والذي يصحح منظورها فى الحياة. فتحبُّه حتى تكتشفَ الحقيقة: لقد كانَ طوم هو الشخص الذي تبَّرعُ لها بقلبِهِ بعدَ أن تعرَّضَ لحادثة سير وتوفي على أثرها. عندئذٍ تفهم "كاترينا" كل ما كانَ غامضاً بشأنِّه. وبعدَ أن تعرف الحقيقة، يخبرها طوم _والذي هو طيفٌ لا يراه غيرها_ أنَّ عليها أن تحيا لمساعدة الآخرين لتكون سعيدة؛ وأنَّها بذلك تكونُ قد أكَّدَتْ له أنَّ قلبه لم يضع سُدًى. وفعلاً فى الجزء الأخير من الفيلم، تحرصُ كاترينا على التسامح مع كل من حولها (أسرتها وأصدقائها ورئيستها فى العمل والمشردين الذين كانَ طوم يراعيهم).

   فيلم بسيط، وحائز على تقييم معتدل. لكنُّه تجسيد حقيقي لاتجاه "كوكاثيس" فى التعامل مع التعددية الثقافية. هذا الفيلم يتضمَّنُ عدداً هائلاً من الأقليات والمهمشين الذين قابلتهم البطلة. فمن ناحية ثقافية، فإنَّ "كاترينا" وأسرتها أصلاً مهاجرين من يوغسلافيا واضطروا للإقامة فى لندن بعدَ أحداث عنفٍ. بالإضافة إلى ذلك أنَّ طوم (البطل) أيضاً من أصول آسيوية. وتعملُ كاترينا لدى سيدة صينية تمتلك متجراً لبيع معدات الكريسماس، والتي جاءَ رجلٌ بريطاني ليحبها بصدقٍ. وأصدقاء كاترينا من أصول أفريقية وغير أوروبية. كما أنُّهم أشاروا إلى سائق الحافلة الهندي. وفى إحدى المرَّات أظهروا أحد البريطانيين العنصريين يعنِّفُ رجلاً وامرأة من أوروبا الشرقية لأنُّهم يتحدثون لغتهم الأمِّ فى الحافلة. وهنا جاءَتْ كاترينا لكي تنقذهما منه وتكمل معهما الحوار بلغتهما. من ناحية اقتصادية، فجزء كبير من الفيلم يعرضُ علاقة كاترينا بمأوى المشردين. وهذا بعدَ أن دلها طوم عليه لتساعد وتشعر أنَّ لها مهمةً فى هذا العالم. ومن الناحية العاطفية، _وهو ما لم أستسغه بالطبع_، فقد كانَتْ العلاقات العاطفية تدورُ بين أطر الزواج (صديقتها وزوجها) وأطر الحبِّ النقي (رئيستها فى العمل وهذا المعجب البريطاني)، وأطر العلاقات الجسدية (علاقاتها العابرة عندمَا كانَتْ مكتئبة)، وأطر علاقة المثلية (أختها التي لديها صديقة حميمة).

    إذن لقد عرضَ الفيلم أبعاداً مختلفة للتعددية (القومية الثقافية/الاقتصادية/العاطفية). ثمَّ اقترح الطريقة المثلى فى التعامل معهم: تجاهلهم والتسامح معهم جميعاً. وهذا بعدَ أنّ أكَّدَ أنَّ هذه الأقليات جميعها جزء من المجتمع البريطاني. فأولاً، أوضحَ أنَّ بطلة الفيلم "مهاجرة" يوغسلافيا ودارَتْ حولها القصة برمتها على الأرض البريطانية. وثانياً بطل الفيلم أيضاً مهاجر آسيوي ساعدَها على الحياة عضويا ومعنوياً. فأمَّا عضويا، فهذا حينما تبَّرَعَ لها بقلبه؛ ومعنوياً حينما ظهرَ لها كطيفٍ لينصحها بالحياة وإسعاد الآخرين. وثالثاً، نشأَتْ علاقة حبٍّ بين رئيستها فى العمل الصينية ورجل محترم بريطاني. ورابعاً، وجدَتْ سعادتها وهي تحتوي مخاوف والدتها _هذه اليوغسلافية التقليدية_ وعدم السخرية منها. وخامساً، أنَّها أصلحَتْ لزوج صديقتها الأفريقي تحفه التي أفسدتها له؛ وفى ذلك سعادة لها. وسادساً، عندما تقرَّبَتْ من المشردين وحاولت الحصول على المال من أجلهم؛ وجهَّزَتْ لهم مسابقة للغناء لاستعراض مواهبهم. فى ذلك وجدَتْ راحةً لقلبها. وسادساً مع عرض أنَّ "الهندي" هو الذي يقودُ الحافلة كاملةً؛ اي بدونه تقفُ الحياة اللندنية الدائبة. وسابعاً، _مع تحفظي_ التأكيد على أنَّ اختلاف أختها (لكونها مثلية) لا ينبغي أن يقلل من مكانتها فى الأسرة. وهذا للتشديد على أنَّ المثليين يمكن أن يكونوا جزءً من أسرة الفرد؛ ونبذهم سوف يضعف الرباط الأسري. ثامناً، نهر "كاترينا" لهذا المتعصب البريطاني والسخرية منه؛ للتأكيد على أنَّ مصير من يتحدَّى التعددية الثقافية هو النبذ والسخرية منه لأنُّه يرفضُ واقعاً موجوداً بالفعل. وجاء المشهد النهائي للفيلم بجميع الأبطال _من الانتماءات الثقافية/العرقية/الاقتصادية/العاطفية المختلفة_ فى مأوى المشردين يستمتعون بالكريسماس سوياً. هذا غير اتحادِ "كاترينا اليوغسلافية" مع "طوم الآسيوي" حيث أنَّها تعيشُ بقلبه وبأحلامه دون أن يوضحوا إن كانَتْ ستتمكن من حبِّ أي شخصٍ آخر بعده.

    خلاصةً، لقد استطاعَ الفيلم اقتراح النموذج الأفضل _من وجهة نظرهم_ فى التعامل مع التعددية؛ وهي التسامح معها وعدم التنمر عليهم. ففى التسامح جاءَتْ سعادة "كاترينا". وبالمثل، فمع التسامح، تأتي سعادة "بريطانيا" عامةً. فالفيلم يؤكدُ أنَّ هذه هي بيئة المجتمع البريطاني _المرجُوَّة_ بحيثُ يحتوي الجميع على أرضه. طبعاً يؤخَذُ على الفيلم أنُّه لم يأتِ على ذكر "الجنس العربي" و"المسلمين" على الإطلاق. وهذا غريب أنَّ بريطانيا من أهم وجهات العرب والمسلمين المهاجرين. هذا بالإضافة إلى تحفظي على اعتبار "المثلية الجنسية" أقلية تحتاجُ التسامح معها. غير ذلك، فقد كانَ فيلماً لطيفاً يمكن تقضية أمسية جيدة بصحبته.


بإمكانكم قراءة المقال فى المجلة: http://www.feps.edu.eg/images/elite/23/issue23ar.pdf، فى الصفحة 18. 

عن المعضلة الميكافيللية (نُشر فى جريدة النخبة فى يوليو 2019)

عن المعضلة الميكافللية




    لم يستطعْ حكيمٌ فى الفكر السياسي من أن يحظى بهذا الصيت الذائع أكثر من نيقولا ميكافللي، وكتابه "الأمير". ولعل ذلك راجعٌ إلى تأطيره لنظرية آية فى العجب، وهي أنَّ: مع لهيب الصراع السياسي الذي تعاني منه أيطاليا فى هذه الحقبة، فينبغي على الأمير أن يقدِّمَ المصلحة على القيم تحت ستار "الغاية تبرر الوسيلة". والحق أنَّ نظرية هذا المفكر تمتد إلى المزيد، لكن من أهم ما تولد عن فكره هو "المعضلة الميكافللية"، وأيهما ينبغي له الانتصار فى الصراع الأبدي: القيم، أم المصلحة. وعلى الرغمِ من أن الواقع السياسي يدفع الذهنَ إلى التصديق أنَّ الغلبة دومًا تكون لصالح "المصلحة"، فإنَّ هذه المعضلة محسومة وفقًا للموازين الدينية، لحساب القيم. فبالإطلاع على مقال دكتور محمد صفار بعنوان "فى باب الموعظة والاعتبار: الحمار والثعلب والأسد، فإنَّ أسوةً بالقرآن الكريم، والآيات المتعددة حول الثواب والعقاب، وكذا الأحاديث النبوية، جميعها تنتصف للقيم. وكأنَّ الرسالة الإلهية هي "مهما شاهدتم فى الدنيا من انتصار الظلم وسحق العدل، الدورة لم تصل إلى نهايتها. فالنهاية لديه هو: فى يوم الحساب"! ومثلما قرأتُ من قبل، فإنَّ صدق الدعوة الدينية يتضح من خلال وجود الأدلة الواقعية التي تدمغ الصدق وتقطع الشكوك باليقين. فقد رأيتُ من الواقع ما يوثِّقُ الحقيقة: أن القيم هي الأدوم، والظافرة، لأنَّ مصدرها هو الله، هذا الكائن الخالد الذي لا يموت. وأنَّ من أسلم وجهه له، ولتعاليمه، لنال الخير الوفير سواء فى الدنيا (بالسيرة الطيبة، وبراحة البال والضمير)، وفى الآخرة (حيث النعيم المقيم). وعلى النقيض، فمن اتبع خطوات الشيطان، فإنَّ عيشته ضنكًا. وبالقياس على حياة الساسة الذين ينالون الثراء الفاحش من التجارات المشبوهة، فلا تخلو حياتهم من الخوف والاضطراب والابتزاز والاستغلال مهما بدا غير ذلك.

    ولم تكن هذه الرؤية حكرًا على الكتابات الدينية، بل إنَّ هنالك عددًا من قصص الحكماء تصدِّقَ عليها، كما قصص الحكيم آيسوب مثلا، وقصته التي تلاها علينا دكتور صفار فى المقال ذاتِهِ، التي تحكي عن حمارٍ تحالف مع ثعلبٍ لحماية بعضهما البعض ضد جرائر الأسد، قبل أن يحنث الثعلب بذلك العهد ويتعاون مع الأسد ليوقعا بالحمار. وبعد أن سقط الحمار فريسة استئمانه الثعلب على حياته، يسارع الأسد فى الانقضاض على الثعلب ملتهمًا إياه. وفى ذلك تذكرة للمثل العربي الشهير: "وجزاه جزاء سنمَّار". والحقّ أنُّه مهما بدت هذه القصة مثالية، وأنَّ الواقع السياسي يعرض فوز الثعلب، والأسد فى النهاية، فمازلتُ قائمةً لدى الإيمان بأنَّ الحياة الدنيا مهما طالت أو قصرت، فهي واقفةٌ عند نقطة قصة أيسوب حيث خان الثعلب الحمار ونقض العهد معه بغية التحالف مع الأقوى وهو الأسد. وأنه ما يبرح أمامنا الوقت الفسيح من أجل رؤية أي الجزاءات سيتلقى هذا الثعلبُ فى أرض الواقع، وفى الحياة الآخرة. فإمَّا أنَّ الحال بهذا الثعلب سيتوقف بأن يخونه الأسد هو كذلك، ويحلَّ عليه ببطشه وجوره -وهو ما جرى فعليا فى قصة آيسوب-، ثم يأتي من يلقن الأسد الدرس الأكيد، سواء شخصٌ آخر أو سواء الزمن وجبروته. أو أن ننتظرَ الحياة الآخرة حيث يسوِّي الله عزَّ وجل الصفوف البشرية لحسابٍ عسيرٍ لا يرحمهم مثلما لم يرحم أولئك الخونة والظلمة الآخرين. وفى هذا التيار، أرى أن الأساطيرَ والخرافات، وبالتالي الكتابات القصصية هي مرآة للواقع، وانعكاس له. وأقنعُ أنَّ قصة أيسوب هي تجسيدٌ للواقع السياسي حيث المؤامرات والمعضلات والمكائد. ولا ينبغي نسيان أنَّ فى العصور القديمة كانت مثالاً حيًّا للرعب السياسي، ولم يكن للحكماء والكتَّاب سوى الكتابة بالرمز والإسقاط. وليس من العسير النظر إلى الحياة السياسية خاصة فى قديم الأزل، -وحاليا فى العهود الفاشية الديكتاتورية-، أنَّها قائمة على الخداع والمصلحة المكيافللية فى الوصول إلى القمة ولو على رقاب الآخرين. وليس نادرًا أنَّ الشخص الذي يبلغ الذروة، ويعتلي القمة ذاك يبدأ فى التخلص بأعوانه الذين مكنوه. ليس فقط لأنَّه بات فاقد المعايير الصائبة للعدالة، ولكن لخوفه من الخديعة منهم. لقد أعانوه سابقًا على حساب آخرين. وبالتالي يبدأ هذا الداء المدعوِّ ب"الشكِّ". فما الذي قد يمنعهم من تكرار الوضع ومعاونة شخصٍ آخر بحيث ينقلبون عليه، ويطيحون به؟

    خلاصة القول أنَّه على الرغم من أنَّ المعضلة الميكافللية قد أنهاها العديدون فى الواقع السياسي لكفة المصلحة، مدَّعين أنَّ الدعوات الدينية وأقوال الحكماء ليست سوى محاولات ساذجة لاستجلاب الأمل المقطوع. فالحقيقة هي أنَّ المعضلة ما زالت موجودة، والقيم ما تفتأ تعبر عن ذاتها وبقوةٍ. فما يعرضه الواقع السياسي ليس سوى نصف الحقيقة، ونصف النهاية. وباقيتها إمَّا ما زالت فى طي الكتمان لأنَّها تعوِّلُ على الزمنِ وجبروته، أو لأنَّها مخجلة وتحدث فعليًا فى المؤامراتِ والخدائع، وليس من الجيد لهؤلاء الساسة توضيح معالمها على الملأ.

وبإمكانكم قراءة المقال فى عدد المجلة: http://www.feps.edu.eg/images/elite/9/issue9ar.pdf

Wednesday, August 14, 2024

روز دوسون وفيلم تيتانيك كمَا لم يرغب أحد فى فهمه

روز دوسون وفيلم تيتانيك كمَا لم يرغب أحد فى فهمه







·احتشدَتْ مجموعات النقد السينمائي الجماهيرية بالكثير من المنشورات حولَ جدوَى فيلم "تيتانيك" الذي صدر عام 1997 بإخراج جيمس كاميرون وبطولة الممثل الأمريكي الشهير ليوناردو ديكابريو والممثلة البريطانية الشهيرة كايت وانسيلت، والذي نال الكثير من الجوائز السينمائية. فالجميع يتندَّرُ بقصة الفيلم التي يعتبرونها خيالية وكذلك النهاية التي يرونها غير منصفة للبطل "جاك داوسون" ومتحيزة لصالح البطلة "روز باكير" أو "روز داوسون".

·فى هذا المقال، سأحاول أنْ أقرأ مع حضراتكم الفيلم من جديد خصوصًا وأنه قد تسنَّتْ لي الفرصة لأن أدخله فى السينما بعد مرور أكثر من 25 عام على إصداره، وذلك لأنه عُرض فى السينما فى عيد الحب عام 2023، وكنت من القلة المحظوظة التي تمكنت من مشاهدته بالنظارات ثلاثية الأبعاد (ولو أني أريد التأكيد على أنَّ الفيلم لم يكن يحتاج لتقنية ثلاثية الأبعاد أبدًا).

· لا بُدَّ فى البدء من فهم أنَّ الفيلم بأسره منذ لحظته الأولى وحتى الأخيرة يناقشُ حكاية "روز باكير" فقط. وكل من قابلتهم سواء جاك دوسون أو والدتها أو خطيبها هُم محطات فى حياة هذه الفتاة البائسة. تبدأ ذكرياتها مع إعطاء نبذة -من خلال بعض المشاهد المتفرقة- عن أنها آتية من أصل أرستقراطي أعزَّها والدها ثمَّ هبطَتْ فى مستواها تمامًا بعدَ مماته لدرجة أنها ووالدتها صارتا على حافة الإفلاس والفقر. لكن لم تسقط المرأتان لأن الأم سلكَتْ مسلكَ الأرستقراطيات الفارغ وهو تزويج الابنة لثري يُنفق عليها ويضمن لها ألا تتقهقر لأراذل المجتمع الذين سبقت وأن أذاقتهم الويل كلما التقت بهم وهي فى برجها العاجي.

·ولكن، أكانَ هذا الزواج بلا ثمن؟!

·الحق أنُّهُ كانَ بثمن باهظ لم يدفعه سوَى روز، ابنة السابعة عشرة، وهي تجدُ نفسها قد صارت فعليًا عاهرة مطلوب منها أن تعيش حياة المتزوجات –بممارسة الحب- مع خطيبها متَى شاء وأينما شاء. صدق أو لا تصدق، أنَّ فى المشهد الذي أعطاها فيه قلادة "قلب المحيط"، كانَ ذلك بعدَ ممارسة الحب معها على متن السفينة. وهناك مشهد فى غاية الأهمية حينما كانَتْ تتولى إرشاد جاك دوسون أثناء عشائه الفاخر فى طبقتها، إذ أشارت إليه نحوَ فتاة من المفترض أنها من طبقتها وقد صارت حاملًا بعدَما كانَتْ خليلة لأحد الأثرياء. وفى اليوم التالي للحفل الذي حضرته روز برفقة جاك، وأثناء إفطارها مع خطيبها، سألها لماذا لم تأتيه أمس؟ وهذا فى إشارة واضحة أنها خليلته التي يقيم معها علاقة المتزوجين فى الوقت الذي يشاء، وهو يرى أن ذلك من حقه طالما يدفع ويبقيها هي وأمها فى طبقتهما. أليست هذه هي علاقة الدعارة؟ الثمن مقابل الهوَى.

·لهذا، ورغم أني كُنتُ أستنكفُ من أنها سلَّمَتْ نفسها لجاك فى العربة الفاخرة التي تعودُ ملكيتها لخطيبها، لكني فهمتُ أنَّ فعلها كانَ مبررًا. لقد أرادَتْ الشعور أنها حُرة، تمتلك جسدها، تعطيه لمن تشاء خصوصًا لو كانَ يحبها بإخلاص. لقد تفحصتُ نظرات جاك دوسون منذ بداية الفيلم وحتَى آخره، ووجدته كانَ دومًا خجلًا منها، لا يتقدم نحوها بخطوة سوَى عندمَا تسمح له بذلك. لكنه لم يتجاوز حدوده معها فى كلمة أو فى حرف. وأجل، العلاقات الإنسانية غير مفهومة عمومًا ولكن القاعدة الأساسية التي يمكن الاسترشاد بها فى محاولة فك طلاسمها، هو أنها تُبنى على مفهوم "المصلحة" والتي يمكن بالمناسبة أن تكون مصلحة خيرية كمَا حدث فى هذا الفيلم بين جاك وروز. إنُّهُ يُكمل كل ما هو ناقص فى حياتها.

·هناك مشهد محذوف، وكرهتُ الفيلم عندمَا وجدت أن 37 دقيقة منه كانتَ محذوفة، فى الليلة الأولى لروز على متن السفينة، وهي بالفستانِ الأحمر، وقد ضجَّتْ من تحكمات خطيبها وأمها التي تُشبه القوَّادة حرفيًا. هذه التحكمات التي تكبتها بينما هي شخص شديد الحُرية والطموح. نلاحظ أنها منذ صعودها على السفينة كلما أبدَتْ رأيًا يعزز حرية المرأة، سخرَ خطيبها منها وطالبتها والدتها بالصمت. المهم أنها كانَتْ -قبل المشهد المعني- تجلس معهم على طاولة العشاء تفكر وتفكر فى خلاص دونما تجده، ثمَّ –فى المشهد المحذوف- توجهت لغرفتها وهناك شعَّثَتْ شعرها ومزقت ثيابها وأخذت تحطم الكثير من مقتنيات الغرفة الباهظة، فى إشارة لتمرد حقيقي على حياة العاهرات والمكبوتات التي تعيشها. وهو المشهد الذي يفسر كيف أنها كانت تجلس مع الخطيب والأم بكامل زينتها قبل أنْ نجدها تجري فى طرقات السفينة مُشعثة الهندام وعيونها محمرة من البكاء والجنون. مشهد ممتاز خسارة حذفه.

·هذه الفتاة كبرت قبل الأوان من التناقضات التي تعيشها. لو ركزت فى بداية الرحلة، ستجدُ أنها كانَتْ تضع رسومات فنانين مغمورين ولكن تتسم لوحاتهم بالجرأة والحرية. هذه هي روز باكير، والتي بسبب أفكار أمها غير المفهومة، أصبحَتْ عاهرة تحت اسم "الأرستقراطية".

·عندمَا أنقذها جاك دوسون من محاولة الانتحار، تعلقَتْ هي به تعلق الناقص الذي وجدَ الكمال. إنُّهُ فقير، لا يلبس وجوه مختلفة عنه، يحب مستواه طالما يضمن الحرية. فى عُرفها، الحرية هي الطُهر، وبالتالي هي دومًا تشعر بعدم طهارتها وبأنُّهُ نظيف. هناك مشهد محذوف آخر، وهي ترتدي فستانها الأصفر بعدَ ليلة محاولة الانتحار، هبطَتْ هي من تلقاء نفسها إلى ساحة فقراء السفينة، تبحثُ عن جاك دوسون. لقد نزلت بنفسها، دونما إكراه إلى مكانٍ مختلف تمام الاختلاف عنها لمجرد أن تبحث عن نبع حياتها الجديد. فى هذا المشهد كان جاك راقدًا وسط زُمرة طبقته يرسم بلا مبالاة، والفتاة الصغيرة –التي سنراها ليلًا مُعجبة به أثناء الحفل الصاخب- نتعرف عليها للمرة الأولى وهي تُبدي ولعها به. ولم تكتفِ روز بالبحث عنه، بل وجدته وصحبته لمتن السفينة ومعه دفتر رسوماته وبدأ حوارهما الأشهر حول رسوماته.

·عندمَا طلبت منه أن يرسمها كما يرسم فتيات باريس، أرادَتْ أن تثبت لنفسها أنَّها قادرة على حياة الحرية التي يتشدقُ بعيشها. الرسمة ليست رسمة عُهر، بل هي تتطهر –فى أعين نفسها- من قاذورات علاقتها الغريبة مع خطيبها. طبعًا لا أبرر أبدًا مشاهد الخلاعة، بل أعرف أن بالفن السينمائي الكثير من الحرمانيات، ولكني قلتُ أني أقرأ الفيلم الآن كرواية، أنقل الانفعالات والتعبيرات التي ربما أغفلها البعض. ومرة أخرى، لم يكن جاك ليتعدى خطوطه معها قط سوَى أنها هي التي كانَتْ دومًا تمُّدُ إليه يدها كي يأخذه معها.

·وهذا يدفعنا للسؤال عمَّا إن كانَتْ روز بايكر لتعود لحياتها الغابرة لو لم يكن جاك قد مات؟ أكانَتْ ستضج من الحياة معه؟ لا أعتقدُ البتة، فالوصال الذي بينهما ليس وصالًا جسديًا أو إعجابًا وقتيًا، إنُّهُ وصال فكري فى المقام الأول. جاك دوسون هو تجسيد للشعارات التي حملتها طويلا بين طيات قلبها ولم تقتنع بها الأم يومًا وسخر منها الخطيب وجميع أفراد طبقتها المُخملية الزائفة. ثمَّ لقد حاولت أن تنبذ حريتها حقًا، فى اليوم الثالث قبل غرق السفينة، وأن تنصاع لحياة العُهر المُقنَّع الذي تعيشه، ولكنها لم تستطع تحتَ سؤال جاك الصريح بلا مواربة إن كانت سعيدة وإن كانَتْ فعلًا تريد رحيله. فى مشهد هنا، نجدها تجلس مع أمها لتراقب فتاة أصغر منها، أمُّها تدربها على الإتيكيت وكيفية الجلوس ممشوقة القوام ومنتصبة الظهر. فما كان من روز إلا أن توقعت للفتاة أسوأ مستقبل بأنها ستكونُ مجرد شاه (خروف) يسمِّنونه ويعلفونه من أجل الذبح فى العيد للاستمتاع بلحمه.

·كل حرف وكل مشهد فى الفيلم كان متضافرًا ومتصلًا ومرتبطًا لرسم صورة حقيقية شاعرية عن روز بايكر، هذه الحرة الأبية المكبوتة فى حياة عُهر هي ترغب فى التطهر منها، وجاك دوسون كانَ بالفعل المنارة التي ترشدها لذلك. استسلمَتْ له لأنها تدرك أنُّهُ سيرعاها بحق، وبولاء، وبفهمٍ رغمَ فقر هيئته وضعف بنيته، على خلاف وسامة خطيبها وقوة بنيانه.

·وهنا بالطبع نتحدث عن مشهدين مُهمين: الأول حينما أجلسها جاك فى قارب النجاة ممثلا مع خطيبها أنُّهُ سيلحقها ثمَّ وجدناها تترك القارب وتعود لجاك، هذا القرار كانَ استكمالًا للقرار الذي اتخذته قبل ساعات، أنها تريد حريتها حتى لو ماتت. إنها لا تريدُ حياة العُهر بعد الآن، بل الحرية أيًا كانَ مرساها (موت أو حياة). والمشهد الثاني هو عندمَا أجلسها على لوح الخشب: لقد نسينا أعزائي كلام جاك دوسون قبلها بيومين وهو يشرح لروز كيفية الموت فى المُحيط المُجمِّد: إحدى خطوات الموت هناك هو أن العقل يُشَلَّ تمامًا عن التفكير. لقد أجلسها على اللوح ولم يفكر فى وضعه ولا هي استطاعَتْ التفكير أيضًا من شدة البرد. لم يكن فى الأمر أنانية، بل هو شلل فكري حقيقي وربنا يحفظ الجميع.

·لماذا عاشَتْ روز هذه العيشة المزدهرة بعدَ جاك دوسون؟ فعلتها لسبب بسيط، وهي أنها تدرك أن هناك من دفع عمره (وهو أبهظ ثمن) لحريتها ولتطهرها. وبالفعل لقد جاءت لحظة الاختيار الحقيقية عندمَا كانَ الخطيب يبحث عنها وسط الناجين بعدمَا انتشلها قارب نجاة، وهي رأته، وكانا قاب قوسين أو أدنَى من بعضهما البعض، وقد اختارت الخيار النهائي: الحرية الغالية جدًا التي أهداها إياها جاك دوسون والتي أوصاها بها: "لن تموتي هُنا، بل ستموتين سيدة عجوز دافئة فى سريرها". عاشَتْ روز حوالي تسعين عامًا بعدَ جاك دوسون، تحملُ اسمه الذي تثِّمن ما ينطوي عليه من رموز ودلالات، وقامَتْ بكل المغامرات التي تمنَّتْ أن تعيشها معه، متذكرة وصيته بأن تعيش، بأن تحيا، بأنُّهُ مات من أجلها. لم يكن بإمكانها التنازل عن مغامرة، عن فرحة، لأن ساعتها سيكون ضميرها بالمرصاد. صنعَتْ آلاف الذكريات وخزنتها فى الصور وكأنها تريد أن تُشهد جاك أنه هو صانع هذه الذكريات عندمَا أنقذها من الموت ومن العُهر. لم تكن لتعيش أي فرحة لو كانَـتْ قد استكملت مشوارها مع أمِّها وخطيبها.

·أجل، لقد أحبَّتْ أسرتها التي شكَّلتها، وزوجها الذي لم يخبرونا لا باسمه ولا بشكله، وكأنه تأكيد أنُّهُ كانَ وسط المغامرات الجميلة التي لم تكن لتعيشها أبدًا لولا جاك دوسون. جاك لم يكن حبيبًا جاء ومات، بل هو حارس بوابة الحرية التي فتحها بدمِّهِ وعمره من أجلها، فأقل واجب نحوه هو الامتثال لوصيته، بأن تُحسن استخدام هديته. لم تملك صورة واحدة له وامتلكت آلاف الصور لمغامراتها التالية، وهو تأكيد أنُّهُ لم يكن مغامرة أو ذكرى، بل هو عمادها وأساسها والذي بدونه لم تكن لتحقق أي شىء. ولهذا كانَ متوقعًا أنها عندمَا فتحت قلبها الذي كانَ جاك من حافظ عليه حقًا، أن يكون ذلك إذعان بانتهاء رحلتها وإتمام وصيته. لقد عاشَتْ حتَى حَكَتْ عنه، وبذلك انتهت مُهمتها فى الحياة، وسترقد بعدَها فى سلامِ الموت متمنية أن يلتقيا فى طُهرهما ونقائهما بعيدًا عن أضغاث الحياة.

·أطلت، وكتبت ما لم أتخيل أن أكتبه فى هذا المقال، وأتمنَّى أنْ أكون وفيت هذا الفيلم بقصته الرقيقة الجميلة –مع تحفظاتي على كل مشاهده الخارجة- حقه.