روز دوسون وفيلم تيتانيك كمَا لم يرغب أحد فى فهمه
·احتشدَتْ
مجموعات النقد السينمائي الجماهيرية بالكثير من المنشورات حولَ جدوَى فيلم
"تيتانيك" الذي صدر عام 1997 بإخراج جيمس كاميرون وبطولة الممثل
الأمريكي الشهير ليوناردو ديكابريو والممثلة البريطانية الشهيرة كايت وانسيلت،
والذي نال الكثير من الجوائز السينمائية. فالجميع يتندَّرُ بقصة الفيلم التي
يعتبرونها خيالية وكذلك النهاية التي يرونها غير منصفة للبطل "جاك
داوسون" ومتحيزة لصالح البطلة "روز باكير" أو "روز
داوسون".
·فى
هذا المقال، سأحاول أنْ أقرأ مع حضراتكم الفيلم من جديد خصوصًا وأنه قد تسنَّتْ لي
الفرصة لأن أدخله فى السينما بعد مرور أكثر من 25 عام على إصداره، وذلك لأنه عُرض
فى السينما فى عيد الحب عام 2023، وكنت من القلة المحظوظة التي تمكنت من مشاهدته
بالنظارات ثلاثية الأبعاد (ولو أني أريد التأكيد على أنَّ الفيلم لم يكن يحتاج
لتقنية ثلاثية الأبعاد أبدًا).
· لا بُدَّ فى البدء من فهم أنَّ الفيلم بأسره
منذ لحظته الأولى وحتى الأخيرة يناقشُ حكاية "روز باكير" فقط. وكل من
قابلتهم سواء جاك دوسون أو والدتها أو خطيبها هُم محطات فى حياة هذه الفتاة البائسة.
تبدأ ذكرياتها مع إعطاء نبذة -من خلال بعض المشاهد المتفرقة- عن أنها آتية من أصل
أرستقراطي أعزَّها والدها ثمَّ هبطَتْ فى مستواها تمامًا بعدَ مماته لدرجة أنها
ووالدتها صارتا على حافة الإفلاس والفقر. لكن لم تسقط المرأتان لأن الأم سلكَتْ
مسلكَ الأرستقراطيات الفارغ وهو تزويج الابنة لثري يُنفق عليها ويضمن لها ألا
تتقهقر لأراذل المجتمع الذين سبقت وأن أذاقتهم الويل كلما التقت بهم وهي فى برجها
العاجي.
·ولكن،
أكانَ هذا الزواج بلا ثمن؟!
·الحق
أنُّهُ كانَ بثمن باهظ لم يدفعه سوَى روز، ابنة السابعة عشرة، وهي تجدُ نفسها قد
صارت فعليًا عاهرة مطلوب منها أن تعيش حياة المتزوجات –بممارسة الحب- مع خطيبها
متَى شاء وأينما شاء. صدق أو لا تصدق، أنَّ فى المشهد الذي أعطاها فيه قلادة
"قلب المحيط"، كانَ ذلك بعدَ ممارسة الحب معها على متن السفينة. وهناك
مشهد فى غاية الأهمية حينما كانَتْ تتولى إرشاد جاك دوسون أثناء عشائه الفاخر فى
طبقتها، إذ أشارت إليه نحوَ فتاة من المفترض أنها من طبقتها وقد صارت حاملًا
بعدَما كانَتْ خليلة لأحد الأثرياء. وفى اليوم التالي للحفل الذي حضرته روز برفقة
جاك، وأثناء إفطارها مع خطيبها، سألها لماذا لم تأتيه أمس؟ وهذا فى إشارة واضحة
أنها خليلته التي يقيم معها علاقة المتزوجين فى الوقت الذي يشاء، وهو يرى أن ذلك
من حقه طالما يدفع ويبقيها هي وأمها فى طبقتهما. أليست هذه هي علاقة الدعارة؟
الثمن مقابل الهوَى.
·لهذا،
ورغم أني كُنتُ أستنكفُ من أنها سلَّمَتْ نفسها لجاك فى العربة الفاخرة التي تعودُ
ملكيتها لخطيبها، لكني فهمتُ أنَّ فعلها كانَ مبررًا. لقد أرادَتْ الشعور أنها
حُرة، تمتلك جسدها، تعطيه لمن تشاء خصوصًا لو كانَ يحبها بإخلاص. لقد تفحصتُ نظرات
جاك دوسون منذ بداية الفيلم وحتَى آخره، ووجدته كانَ دومًا خجلًا منها، لا يتقدم
نحوها بخطوة سوَى عندمَا تسمح له بذلك. لكنه لم يتجاوز حدوده معها فى كلمة أو فى
حرف. وأجل، العلاقات الإنسانية غير مفهومة عمومًا ولكن القاعدة الأساسية التي يمكن
الاسترشاد بها فى محاولة فك طلاسمها، هو أنها تُبنى على مفهوم "المصلحة"
والتي يمكن بالمناسبة أن تكون مصلحة خيرية كمَا حدث فى هذا الفيلم بين جاك وروز.
إنُّهُ يُكمل كل ما هو ناقص فى حياتها.
·هناك
مشهد محذوف، وكرهتُ الفيلم عندمَا وجدت أن 37 دقيقة منه كانتَ محذوفة، فى الليلة
الأولى لروز على متن السفينة، وهي بالفستانِ الأحمر، وقد ضجَّتْ من تحكمات خطيبها
وأمها التي تُشبه القوَّادة حرفيًا. هذه التحكمات التي تكبتها بينما هي شخص شديد
الحُرية والطموح. نلاحظ أنها منذ صعودها على السفينة كلما أبدَتْ رأيًا يعزز حرية
المرأة، سخرَ خطيبها منها وطالبتها والدتها بالصمت. المهم أنها كانَتْ -قبل المشهد
المعني- تجلس معهم على طاولة العشاء تفكر وتفكر فى خلاص دونما تجده، ثمَّ –فى المشهد
المحذوف- توجهت لغرفتها وهناك شعَّثَتْ شعرها ومزقت ثيابها وأخذت تحطم الكثير من
مقتنيات الغرفة الباهظة، فى إشارة لتمرد حقيقي على حياة العاهرات والمكبوتات التي
تعيشها. وهو المشهد الذي يفسر كيف أنها كانت تجلس مع الخطيب والأم بكامل زينتها
قبل أنْ نجدها تجري فى طرقات السفينة مُشعثة الهندام وعيونها محمرة من البكاء
والجنون. مشهد ممتاز خسارة حذفه.
·هذه
الفتاة كبرت قبل الأوان من التناقضات التي تعيشها. لو ركزت فى بداية الرحلة، ستجدُ
أنها كانَتْ تضع رسومات فنانين مغمورين ولكن تتسم لوحاتهم بالجرأة والحرية. هذه هي
روز باكير، والتي بسبب أفكار أمها غير المفهومة، أصبحَتْ عاهرة تحت اسم
"الأرستقراطية".
·عندمَا
أنقذها جاك دوسون من محاولة الانتحار، تعلقَتْ هي به تعلق الناقص الذي وجدَ
الكمال. إنُّهُ فقير، لا يلبس وجوه مختلفة عنه، يحب مستواه طالما يضمن الحرية. فى
عُرفها، الحرية هي الطُهر، وبالتالي هي دومًا تشعر بعدم طهارتها وبأنُّهُ نظيف.
هناك مشهد محذوف آخر، وهي ترتدي فستانها الأصفر بعدَ ليلة محاولة الانتحار، هبطَتْ
هي من تلقاء نفسها إلى ساحة فقراء السفينة، تبحثُ عن جاك دوسون. لقد نزلت بنفسها،
دونما إكراه إلى مكانٍ مختلف تمام الاختلاف عنها لمجرد أن تبحث عن نبع حياتها
الجديد. فى هذا المشهد كان جاك راقدًا وسط زُمرة طبقته يرسم بلا مبالاة، والفتاة الصغيرة
–التي سنراها ليلًا مُعجبة به أثناء الحفل الصاخب- نتعرف عليها للمرة الأولى وهي
تُبدي ولعها به. ولم تكتفِ روز بالبحث عنه، بل وجدته وصحبته لمتن السفينة ومعه
دفتر رسوماته وبدأ حوارهما الأشهر حول رسوماته.
·عندمَا
طلبت منه أن يرسمها كما يرسم فتيات باريس، أرادَتْ أن تثبت لنفسها أنَّها قادرة
على حياة الحرية التي يتشدقُ بعيشها. الرسمة ليست رسمة عُهر، بل هي تتطهر –فى أعين
نفسها- من قاذورات علاقتها الغريبة مع خطيبها. طبعًا لا أبرر أبدًا مشاهد الخلاعة،
بل أعرف أن بالفن السينمائي الكثير من الحرمانيات، ولكني قلتُ أني أقرأ الفيلم
الآن كرواية، أنقل الانفعالات والتعبيرات التي ربما أغفلها البعض. ومرة أخرى، لم
يكن جاك ليتعدى خطوطه معها قط سوَى أنها هي التي كانَتْ دومًا تمُّدُ إليه يدها كي
يأخذه معها.
·وهذا
يدفعنا للسؤال عمَّا إن كانَتْ روز بايكر لتعود لحياتها الغابرة لو لم يكن جاك قد
مات؟ أكانَتْ ستضج من الحياة معه؟ لا أعتقدُ البتة، فالوصال الذي بينهما ليس
وصالًا جسديًا أو إعجابًا وقتيًا، إنُّهُ وصال فكري فى المقام الأول. جاك دوسون هو
تجسيد للشعارات التي حملتها طويلا بين طيات قلبها ولم تقتنع بها الأم يومًا وسخر
منها الخطيب وجميع أفراد طبقتها المُخملية الزائفة. ثمَّ لقد حاولت أن تنبذ حريتها
حقًا، فى اليوم الثالث قبل غرق السفينة، وأن تنصاع لحياة العُهر المُقنَّع الذي
تعيشه، ولكنها لم تستطع تحتَ سؤال جاك الصريح بلا مواربة إن كانت سعيدة وإن كانَتْ
فعلًا تريد رحيله. فى مشهد هنا، نجدها تجلس مع أمها لتراقب فتاة أصغر منها، أمُّها
تدربها على الإتيكيت وكيفية الجلوس ممشوقة القوام ومنتصبة الظهر. فما كان من روز
إلا أن توقعت للفتاة أسوأ مستقبل بأنها ستكونُ مجرد شاه (خروف) يسمِّنونه ويعلفونه
من أجل الذبح فى العيد للاستمتاع بلحمه.
·كل
حرف وكل مشهد فى الفيلم كان متضافرًا ومتصلًا ومرتبطًا لرسم صورة حقيقية شاعرية عن
روز بايكر، هذه الحرة الأبية المكبوتة فى حياة عُهر هي ترغب فى التطهر منها، وجاك
دوسون كانَ بالفعل المنارة التي ترشدها لذلك. استسلمَتْ له لأنها تدرك أنُّهُ
سيرعاها بحق، وبولاء، وبفهمٍ رغمَ فقر هيئته وضعف بنيته، على خلاف وسامة خطيبها
وقوة بنيانه.
·وهنا
بالطبع نتحدث عن مشهدين مُهمين: الأول حينما أجلسها جاك فى قارب النجاة ممثلا مع
خطيبها أنُّهُ سيلحقها ثمَّ وجدناها تترك القارب وتعود لجاك، هذا القرار كانَ
استكمالًا للقرار الذي اتخذته قبل ساعات، أنها تريد حريتها حتى لو ماتت. إنها لا
تريدُ حياة العُهر بعد الآن، بل الحرية أيًا كانَ مرساها (موت أو حياة). والمشهد
الثاني هو عندمَا أجلسها على لوح الخشب: لقد نسينا أعزائي كلام جاك دوسون قبلها
بيومين وهو يشرح لروز كيفية الموت فى المُحيط المُجمِّد: إحدى خطوات الموت هناك هو
أن العقل يُشَلَّ تمامًا عن التفكير. لقد أجلسها على اللوح ولم يفكر فى وضعه ولا
هي استطاعَتْ التفكير أيضًا من شدة البرد. لم يكن فى الأمر أنانية، بل هو شلل فكري
حقيقي وربنا يحفظ الجميع.
·لماذا
عاشَتْ روز هذه العيشة المزدهرة بعدَ جاك دوسون؟ فعلتها لسبب بسيط، وهي أنها تدرك
أن هناك من دفع عمره (وهو أبهظ ثمن) لحريتها ولتطهرها. وبالفعل لقد جاءت لحظة
الاختيار الحقيقية عندمَا كانَ الخطيب يبحث عنها وسط الناجين بعدمَا انتشلها قارب
نجاة، وهي رأته، وكانا قاب قوسين أو أدنَى من بعضهما البعض، وقد اختارت الخيار
النهائي: الحرية الغالية جدًا التي أهداها إياها جاك دوسون والتي أوصاها بها:
"لن تموتي هُنا، بل ستموتين سيدة عجوز دافئة فى سريرها". عاشَتْ روز
حوالي تسعين عامًا بعدَ جاك دوسون، تحملُ اسمه الذي تثِّمن ما ينطوي عليه من رموز
ودلالات، وقامَتْ بكل المغامرات التي تمنَّتْ أن تعيشها معه، متذكرة وصيته بأن
تعيش، بأن تحيا، بأنُّهُ مات من أجلها. لم يكن بإمكانها التنازل عن مغامرة، عن
فرحة، لأن ساعتها سيكون ضميرها بالمرصاد. صنعَتْ آلاف الذكريات وخزنتها فى الصور
وكأنها تريد أن تُشهد جاك أنه هو صانع هذه الذكريات عندمَا أنقذها من الموت ومن
العُهر. لم تكن لتعيش أي فرحة لو كانَـتْ قد استكملت مشوارها مع أمِّها وخطيبها.
·أجل،
لقد أحبَّتْ أسرتها التي شكَّلتها، وزوجها الذي لم يخبرونا لا باسمه ولا بشكله،
وكأنه تأكيد أنُّهُ كانَ وسط المغامرات الجميلة التي لم تكن لتعيشها أبدًا لولا
جاك دوسون. جاك لم يكن حبيبًا جاء ومات، بل هو حارس بوابة الحرية التي فتحها
بدمِّهِ وعمره من أجلها، فأقل واجب نحوه هو الامتثال لوصيته، بأن تُحسن استخدام
هديته. لم تملك صورة واحدة له وامتلكت آلاف الصور لمغامراتها التالية، وهو تأكيد
أنُّهُ لم يكن مغامرة أو ذكرى، بل هو عمادها وأساسها والذي بدونه لم تكن لتحقق أي
شىء. ولهذا كانَ متوقعًا أنها عندمَا فتحت قلبها الذي كانَ جاك من حافظ عليه حقًا،
أن يكون ذلك إذعان بانتهاء رحلتها وإتمام وصيته. لقد عاشَتْ حتَى حَكَتْ عنه،
وبذلك انتهت مُهمتها فى الحياة، وسترقد بعدَها فى سلامِ الموت متمنية أن يلتقيا فى
طُهرهما ونقائهما بعيدًا عن أضغاث الحياة.
·أطلت،
وكتبت ما لم أتخيل أن أكتبه فى هذا المقال، وأتمنَّى أنْ أكون وفيت هذا الفيلم
بقصته الرقيقة الجميلة –مع تحفظاتي على كل مشاهده الخارجة- حقه.