Saturday, August 17, 2024

فيلم عيد الميلاد الأخير والتعددية الثقافية (نُشر فى مجلة النُخبة فى سبتمبر 2020)

 

فيلم (عيد الميلاد الأخير)، والتعددية الثقافية



    يمكن القول أنَّ الثقافة هي القيم والأهداف والسلوكيات المتشاركة والتي تصنعُ الجماعة الثقافية. وتأتي أهميتها من أنَّها تغطي أوجه عديدة من حياة الإنسان وتشكل وجهة نظره حول نفسه وحول علاقته بالآخرين. وقد أصبحَتْ كيفية مخاطبة الدول للأقليات الإثنية والثقافية داخلها شىء مهم. فالعصر الحالي يمكن تسميته بعصر "سياسة الهوية". وذلك بسبب مطالب الأقليات بشىء من الاعتراف الرسمي واستيعاب حقوقهم اللغوية والاستقلال الذاتي الثقافي أو الديني، والحكم الذاتي الإقليمي أو المزيد من التمثيل السياسي. وتقومُ سياسة "التعددية الثقافية" على تحديد طريقة لاحتواء هذه الاختلافات الثقافية والإثنية فى التنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

   وقد تعدَدَتْ الاتجاهات النظرية المتعلقة بسياسة "التعددية الثقافية". ومن أهمّ هذه الاتجاهات هو "سياسة اللامبالاة" التي قدَّمها المفكر الليبرالي "تشاندران كوكاثيس". بناءً على هذه السياسة، فينبغي على الدولة عدم الاعتراف بالاختلافات الإثنية والثقافية. وذلك لأنَّ فضيلة الليبرالية هي "تسامحها مع التنوع" و"عدم وجود دوغماتية أخلاقية فى عقيدتها". ومن ثمَّ، فهو يرى أنَّ على الدولة الليبرالية ترك الناس أحراراً فى تحقيق أهدافهم سواء بصورة فردية أو من خلال جماعات. ويكونُ دور الدولة هو تقديم السلام والنظام الضروري لتحقيق هذه المشاريع. لكنَّها لن تكونَ مسؤولة عن نجاح أو فشل هذه الجماعات فى تحقيق هذه الأهداف والمشروعات.

   فى هذا الصدد، يأتي فيلم "الكريسماس الأخير" كتطبيق على هذا الاتجاه. يبدأ الفيلم ب"كاترينا" التي ترجو أنْ تكونَ مغنية، وتعمل فى متجر لبيع مقتنيات عيد الميلاد. خلال الجزء الأول من الفيلم، تبدو هذه الشابة مهملة ومستهترة، ومكتئبة. دائماً تقومُ بافتعال المشكلات لجميع أصدقائها وتؤذي أسرتها، وعلاقاتها العاطفية غير مستقرة. ونعلمُ أنَّها على هذا الحال منذ إجرائها لعملية "زرع قلب". وهذا حتى تقابل شخصية "طوم"، والذي يصحح منظورها فى الحياة. فتحبُّه حتى تكتشفَ الحقيقة: لقد كانَ طوم هو الشخص الذي تبَّرعُ لها بقلبِهِ بعدَ أن تعرَّضَ لحادثة سير وتوفي على أثرها. عندئذٍ تفهم "كاترينا" كل ما كانَ غامضاً بشأنِّه. وبعدَ أن تعرف الحقيقة، يخبرها طوم _والذي هو طيفٌ لا يراه غيرها_ أنَّ عليها أن تحيا لمساعدة الآخرين لتكون سعيدة؛ وأنَّها بذلك تكونُ قد أكَّدَتْ له أنَّ قلبه لم يضع سُدًى. وفعلاً فى الجزء الأخير من الفيلم، تحرصُ كاترينا على التسامح مع كل من حولها (أسرتها وأصدقائها ورئيستها فى العمل والمشردين الذين كانَ طوم يراعيهم).

   فيلم بسيط، وحائز على تقييم معتدل. لكنُّه تجسيد حقيقي لاتجاه "كوكاثيس" فى التعامل مع التعددية الثقافية. هذا الفيلم يتضمَّنُ عدداً هائلاً من الأقليات والمهمشين الذين قابلتهم البطلة. فمن ناحية ثقافية، فإنَّ "كاترينا" وأسرتها أصلاً مهاجرين من يوغسلافيا واضطروا للإقامة فى لندن بعدَ أحداث عنفٍ. بالإضافة إلى ذلك أنَّ طوم (البطل) أيضاً من أصول آسيوية. وتعملُ كاترينا لدى سيدة صينية تمتلك متجراً لبيع معدات الكريسماس، والتي جاءَ رجلٌ بريطاني ليحبها بصدقٍ. وأصدقاء كاترينا من أصول أفريقية وغير أوروبية. كما أنُّهم أشاروا إلى سائق الحافلة الهندي. وفى إحدى المرَّات أظهروا أحد البريطانيين العنصريين يعنِّفُ رجلاً وامرأة من أوروبا الشرقية لأنُّهم يتحدثون لغتهم الأمِّ فى الحافلة. وهنا جاءَتْ كاترينا لكي تنقذهما منه وتكمل معهما الحوار بلغتهما. من ناحية اقتصادية، فجزء كبير من الفيلم يعرضُ علاقة كاترينا بمأوى المشردين. وهذا بعدَ أن دلها طوم عليه لتساعد وتشعر أنَّ لها مهمةً فى هذا العالم. ومن الناحية العاطفية، _وهو ما لم أستسغه بالطبع_، فقد كانَتْ العلاقات العاطفية تدورُ بين أطر الزواج (صديقتها وزوجها) وأطر الحبِّ النقي (رئيستها فى العمل وهذا المعجب البريطاني)، وأطر العلاقات الجسدية (علاقاتها العابرة عندمَا كانَتْ مكتئبة)، وأطر علاقة المثلية (أختها التي لديها صديقة حميمة).

    إذن لقد عرضَ الفيلم أبعاداً مختلفة للتعددية (القومية الثقافية/الاقتصادية/العاطفية). ثمَّ اقترح الطريقة المثلى فى التعامل معهم: تجاهلهم والتسامح معهم جميعاً. وهذا بعدَ أنّ أكَّدَ أنَّ هذه الأقليات جميعها جزء من المجتمع البريطاني. فأولاً، أوضحَ أنَّ بطلة الفيلم "مهاجرة" يوغسلافيا ودارَتْ حولها القصة برمتها على الأرض البريطانية. وثانياً بطل الفيلم أيضاً مهاجر آسيوي ساعدَها على الحياة عضويا ومعنوياً. فأمَّا عضويا، فهذا حينما تبَّرَعَ لها بقلبه؛ ومعنوياً حينما ظهرَ لها كطيفٍ لينصحها بالحياة وإسعاد الآخرين. وثالثاً، نشأَتْ علاقة حبٍّ بين رئيستها فى العمل الصينية ورجل محترم بريطاني. ورابعاً، وجدَتْ سعادتها وهي تحتوي مخاوف والدتها _هذه اليوغسلافية التقليدية_ وعدم السخرية منها. وخامساً، أنَّها أصلحَتْ لزوج صديقتها الأفريقي تحفه التي أفسدتها له؛ وفى ذلك سعادة لها. وسادساً، عندما تقرَّبَتْ من المشردين وحاولت الحصول على المال من أجلهم؛ وجهَّزَتْ لهم مسابقة للغناء لاستعراض مواهبهم. فى ذلك وجدَتْ راحةً لقلبها. وسادساً مع عرض أنَّ "الهندي" هو الذي يقودُ الحافلة كاملةً؛ اي بدونه تقفُ الحياة اللندنية الدائبة. وسابعاً، _مع تحفظي_ التأكيد على أنَّ اختلاف أختها (لكونها مثلية) لا ينبغي أن يقلل من مكانتها فى الأسرة. وهذا للتشديد على أنَّ المثليين يمكن أن يكونوا جزءً من أسرة الفرد؛ ونبذهم سوف يضعف الرباط الأسري. ثامناً، نهر "كاترينا" لهذا المتعصب البريطاني والسخرية منه؛ للتأكيد على أنَّ مصير من يتحدَّى التعددية الثقافية هو النبذ والسخرية منه لأنُّه يرفضُ واقعاً موجوداً بالفعل. وجاء المشهد النهائي للفيلم بجميع الأبطال _من الانتماءات الثقافية/العرقية/الاقتصادية/العاطفية المختلفة_ فى مأوى المشردين يستمتعون بالكريسماس سوياً. هذا غير اتحادِ "كاترينا اليوغسلافية" مع "طوم الآسيوي" حيث أنَّها تعيشُ بقلبه وبأحلامه دون أن يوضحوا إن كانَتْ ستتمكن من حبِّ أي شخصٍ آخر بعده.

    خلاصةً، لقد استطاعَ الفيلم اقتراح النموذج الأفضل _من وجهة نظرهم_ فى التعامل مع التعددية؛ وهي التسامح معها وعدم التنمر عليهم. ففى التسامح جاءَتْ سعادة "كاترينا". وبالمثل، فمع التسامح، تأتي سعادة "بريطانيا" عامةً. فالفيلم يؤكدُ أنَّ هذه هي بيئة المجتمع البريطاني _المرجُوَّة_ بحيثُ يحتوي الجميع على أرضه. طبعاً يؤخَذُ على الفيلم أنُّه لم يأتِ على ذكر "الجنس العربي" و"المسلمين" على الإطلاق. وهذا غريب أنَّ بريطانيا من أهم وجهات العرب والمسلمين المهاجرين. هذا بالإضافة إلى تحفظي على اعتبار "المثلية الجنسية" أقلية تحتاجُ التسامح معها. غير ذلك، فقد كانَ فيلماً لطيفاً يمكن تقضية أمسية جيدة بصحبته.


بإمكانكم قراءة المقال فى المجلة: http://www.feps.edu.eg/images/elite/23/issue23ar.pdf، فى الصفحة 18. 

No comments:

Post a Comment