"ميدان
تيانامين وسؤال المقاومة"
يختص علمُ السياسة فى أصوله
ب"السلطة السياسية"، وكل ما يتعلق بها، وبالأساس مسائلتها، والتعرف على
ثوابتها، بل وكذلك معرفة أشكال مقاومتها فى بعض الأحيان إذا استلزم الأمر. وقد عرفت
الصين منذ قديم الأزل نظمًا فى غاية السلطوية، تكادُ لا تعطي الشعب أي فسحة من
الحرية. ولولا حادثة "ميدان تيتانيام فى 1989"، لما احتسب للشعب الصيني
أي محاولة للمقاومة. وعلى الرغم من إخفاقها، وانتهائها بأرقام هائلة من الضحايا
نتيجة اجتياح قوات النظام للميدان وتشتيت الثائرين، إلا أنَّه -بالنسبة إلى بعض
المفكرين السياسيين أمثال أندريجا زيفنيك"، هو الشكل الأصيل للمقاومة.
فى تحليل زيفنيك للشكل
الأصح للمقاومة، فقد استعان بنظرية جورجيو أجامبين عن "الحياة العارية"،
ونظرية جاكس لاكان عن "سياسة الأيًّا ما كان Whatever politics"، و"بقاء الأيًّا ما كان Whatever beings". يرى أجامبين، أنَّ من يحملون المقدرة على مقاومة السيادة
والنظام، لا بد أن يكون لديهم "bare lives" أي
حياة عارية من الحماية القانونية والسياسية، هي "الاستقصاء المتضمن".
فقد تم إقصاؤهم من الحياة السياسية وليس لهم حماية قانونية أو سياسية. وإنُّهم
يظلون متضمنين لأنُّهم نتاج قوة السيادة السياسية التي أقصتهم. الحياة العارية هي
حياة غير سياسية، بلا قوة ولا يمكنها توجيه أي تهديد للنظام القائم. ونتيجة
للانتهاكات التي تعرض لها الصينيون فى حريتهم، فإنُّهم انطلقوا إلى الميدان من أجل
المناداة ببعض الديمقراطية والحرية من الحزب الصيني الحاكم. وفى نظرية أجامبين عن
الحياة العارية، فإنّهم أصبحوا عراة حينما قامت الحكومة بإقصائهم ونزع الحماية
القانونية والسياسية عليهم.
ومما أكَّدَ عليه لاكان
لتكون المقاومة مضبوطة، فإنَّ على المقاومين أن يقوموا بفعل "act" من
أجل الوصول إلى حدث "event" -وهو
النقطة التحولية فى التاريخ ليؤدي إلى انهيار نظام معين وبناء آخر-. كما أنَّ هناك
"مرور الحدث"، وهي عملية انتقال الفرد من وضعية كونه موجود فى النظام
القائم، إلى كونه متحررًا من جميع الخطوط المفروضة عليه. وبنجاح هذه العملية، يُخلَقُ
"البقاء الأيًّا ما كان"، وهو الإنسان الذي قطع انتماءاته بهويته ومزق
كل الروابط الاجتماعية التي تربطه بالآخرين. والمقاومة هي "المطالبة بالبقاء
أو demand of being". وليست بالأمر السهل،
لأنَّها تستدعي مطالبة النظام بشىء قد يؤدي إلى موته فى حال استجابته له.
وبالنسبة إلى زيفنيك، فإنَّ
الثوار فى ميدان تيتانيام، تحوَّلوا بعد الحياة العارية إلى القيام بفعل
"النزول إلى الميدان" من أجل حدث "تغيير النظام"، وقد حاولوا تكسير
كل السلاسل التي تكبلهم من النظام الحاكم (مرور الحدث)، وتحوَّلوا إلى البقاء
الأيًّا ما كان حيث دمروا كل الروابط الاجتماعية فيما بينهم ولم يبقَ إلا مطالبتهم
ببعض الأمور التي فى حالة استيفاء النظام الحاكم لها، فإنُّه يتداعى. فالحرية
والديمقراطية وعدم الفساد مطالب تتناقض مع أسس هذا النظام كليةً. وهذه هي سياسة
"الأيًّا ما كان" التي نطق بها لاكان. ومع تجاهل النظام لمطالبهم،
ازدادت الحياة العارية، وتحولوا أكثر إلى الكائنات الأيًّا ما تكون تلك، وخفتت حدة
روابطهم مع النظام وكذلك مع بعضهم البعض.
أمَّا لماذا أخفقت
التظاهرات فى تيتانيام رغمَ أنَّها -بالنسبة إلى زيفنيك- كانت تمثل النموذج الأنسب
لنظريتي أجامبين ولاكان عن المقاومة، فذلك لأنَّ النظام الصيني الحاكم كان جامدًا
بشدة، بحيث لم يعبأ سوى باستقراره ولم يهتمْ بالثوَّار، ولم يجد غضاضةً فى استعمال
العنف المدمر والتدخل العسكري فى الميدان. ومن هنا، مع هذا العنف الرهيب، فقد مات
من قاوم، ومن لم يمت، فإنُّه عاد ليرتبط مرةً أخرى بصورة درامية مع النظام الحاكم
من جديد، ويغطي حياته العارية بستار النظام. وعلى حدِّ قول زيفنيك فى مقاله:
"وخلال الأيام والأسابيع التالية على الحملة، فإنَّ الحزب الصيني الشيوعي
استعاد قوته السياسية وظهر أقوى مما كان[1]".
إذن، فالمقاومة هي شكل من
أشكال الرغبة فى تغيير النظام القائم. لكنّها ليست فعلا عشوائيًا أو اعتباطيًا، بل
إنَّها عملية منظمة، تبدأ من الحياة العارية والتحوُّلِ إلى كيان غير سياسي لا
يخضع للحماية السياسية أو القانونية للنظام، وينتهي بالفعل والحدث ومرور الحدث،
والمطالبة بما لا يستطيع النظام أن يتحمله من أجل أن ينهار. لكن السؤال الدائم
الذي يثور فى رؤوسنا بعد حادثة تيتانيام، هل كان النظام الصيني شديد الدوجماتية
فعلا بحيث لم تنفع معه هذه الصورة الحرفية للمقاومة، أمَّ أنَّ نموذج المقاومة لم
يكن قويًّا كفاية ولا بد أن يتضمن شيئاً إضافيا لكي ينجح؟
بإمكانكم قراءة المقال فى عدد الجريدة: http://www.feps.edu.eg/images/elite/13/issue13ar.pdf، ص10
[1] Andreja Zevnik,
"Sovereign-less Subject and the possibility of Resistance", Journal
of International Studies, Vol. 38, no. 1, 2009 pp. 83-106
No comments:
Post a Comment