عن المعضلة الميكافللية
لم يستطعْ حكيمٌ فى
الفكر السياسي من أن يحظى بهذا الصيت الذائع أكثر من نيقولا ميكافللي، وكتابه
"الأمير". ولعل ذلك راجعٌ إلى تأطيره لنظرية آية فى العجب، وهي أنَّ: مع
لهيب الصراع السياسي الذي تعاني منه أيطاليا فى هذه الحقبة، فينبغي على الأمير أن
يقدِّمَ المصلحة على القيم تحت ستار "الغاية تبرر الوسيلة". والحق أنَّ
نظرية هذا المفكر تمتد إلى المزيد، لكن من أهم ما تولد عن فكره هو "المعضلة
الميكافللية"، وأيهما ينبغي له الانتصار فى الصراع الأبدي: القيم، أم
المصلحة. وعلى الرغمِ من أن الواقع السياسي يدفع الذهنَ إلى التصديق أنَّ الغلبة
دومًا تكون لصالح "المصلحة"، فإنَّ هذه المعضلة محسومة وفقًا للموازين
الدينية، لحساب القيم. فبالإطلاع على مقال دكتور محمد صفار بعنوان "فى باب
الموعظة والاعتبار: الحمار والثعلب والأسد، فإنَّ أسوةً بالقرآن الكريم،
والآيات المتعددة حول الثواب والعقاب، وكذا الأحاديث النبوية، جميعها تنتصف للقيم.
وكأنَّ الرسالة الإلهية هي "مهما
شاهدتم فى الدنيا من انتصار الظلم وسحق العدل، الدورة لم تصل إلى نهايتها.
فالنهاية لديه هو: فى يوم الحساب"! ومثلما قرأتُ من قبل، فإنَّ صدق
الدعوة الدينية يتضح من خلال وجود الأدلة الواقعية التي تدمغ الصدق وتقطع الشكوك
باليقين. فقد رأيتُ من الواقع ما يوثِّقُ الحقيقة: أن القيم هي الأدوم، والظافرة،
لأنَّ مصدرها هو الله، هذا الكائن الخالد الذي لا يموت. وأنَّ من أسلم وجهه له،
ولتعاليمه، لنال الخير الوفير سواء فى الدنيا (بالسيرة الطيبة، وبراحة البال
والضمير)، وفى الآخرة (حيث النعيم المقيم). وعلى النقيض، فمن اتبع خطوات الشيطان،
فإنَّ عيشته ضنكًا. وبالقياس على حياة الساسة الذين ينالون الثراء الفاحش من
التجارات المشبوهة، فلا تخلو حياتهم من الخوف والاضطراب والابتزاز والاستغلال مهما
بدا غير ذلك.
ولم تكن هذه الرؤية حكرًا على الكتابات
الدينية، بل إنَّ هنالك عددًا من قصص الحكماء تصدِّقَ عليها، كما قصص الحكيم آيسوب
مثلا، وقصته التي تلاها علينا دكتور صفار فى المقال ذاتِهِ، التي تحكي عن حمارٍ
تحالف مع ثعلبٍ لحماية بعضهما البعض ضد جرائر الأسد، قبل أن يحنث الثعلب بذلك
العهد ويتعاون مع الأسد ليوقعا بالحمار. وبعد أن سقط الحمار فريسة استئمانه الثعلب
على حياته، يسارع الأسد فى الانقضاض على الثعلب ملتهمًا إياه. وفى ذلك تذكرة للمثل
العربي الشهير: "وجزاه جزاء سنمَّار". والحقّ أنُّه مهما بدت هذه القصة
مثالية، وأنَّ الواقع السياسي يعرض فوز الثعلب، والأسد فى النهاية، فمازلتُ قائمةً لدى الإيمان بأنَّ الحياة الدنيا مهما
طالت أو قصرت، فهي واقفةٌ عند نقطة قصة أيسوب حيث خان الثعلب الحمار ونقض العهد
معه بغية التحالف مع الأقوى وهو الأسد. وأنه ما يبرح أمامنا الوقت الفسيح من أجل
رؤية أي الجزاءات سيتلقى هذا الثعلبُ فى أرض الواقع، وفى الحياة الآخرة. فإمَّا
أنَّ الحال بهذا الثعلب سيتوقف بأن يخونه الأسد هو كذلك، ويحلَّ عليه ببطشه وجوره
-وهو ما جرى فعليا فى قصة آيسوب-، ثم يأتي من يلقن الأسد الدرس الأكيد، سواء شخصٌ
آخر أو سواء الزمن وجبروته. أو أن ننتظرَ الحياة الآخرة حيث يسوِّي الله عزَّ وجل
الصفوف البشرية لحسابٍ عسيرٍ لا يرحمهم مثلما لم يرحم أولئك الخونة والظلمة
الآخرين. وفى هذا التيار، أرى أن الأساطيرَ والخرافات، وبالتالي
الكتابات القصصية هي مرآة للواقع، وانعكاس له. وأقنعُ أنَّ قصة أيسوب هي تجسيدٌ
للواقع السياسي حيث المؤامرات والمعضلات والمكائد. ولا ينبغي نسيان أنَّ فى العصور
القديمة كانت مثالاً حيًّا للرعب السياسي، ولم يكن للحكماء والكتَّاب سوى الكتابة
بالرمز والإسقاط. وليس من العسير النظر إلى الحياة السياسية خاصة فى قديم الأزل،
-وحاليا فى العهود الفاشية الديكتاتورية-، أنَّها قائمة على الخداع والمصلحة
المكيافللية فى الوصول إلى القمة ولو على رقاب الآخرين. وليس نادرًا أنَّ الشخص
الذي يبلغ الذروة، ويعتلي القمة ذاك يبدأ فى التخلص بأعوانه الذين مكنوه. ليس فقط
لأنَّه بات فاقد المعايير الصائبة للعدالة، ولكن لخوفه من الخديعة منهم. لقد
أعانوه سابقًا على حساب آخرين. وبالتالي يبدأ هذا الداء المدعوِّ
ب"الشكِّ". فما الذي قد يمنعهم من تكرار الوضع ومعاونة شخصٍ آخر بحيث
ينقلبون عليه، ويطيحون به؟
خلاصة
القول أنَّه على الرغم من أنَّ المعضلة الميكافللية قد أنهاها العديدون فى الواقع
السياسي لكفة المصلحة، مدَّعين أنَّ الدعوات الدينية وأقوال الحكماء ليست سوى
محاولات ساذجة لاستجلاب الأمل المقطوع. فالحقيقة هي أنَّ المعضلة ما زالت موجودة،
والقيم ما تفتأ تعبر عن ذاتها وبقوةٍ. فما يعرضه الواقع السياسي ليس سوى نصف
الحقيقة، ونصف النهاية. وباقيتها إمَّا ما زالت فى طي الكتمان لأنَّها تعوِّلُ على
الزمنِ وجبروته، أو لأنَّها مخجلة وتحدث فعليًا فى المؤامراتِ والخدائع، وليس من
الجيد لهؤلاء الساسة توضيح معالمها على الملأ.
وبإمكانكم قراءة المقال فى عدد المجلة: http://www.feps.edu.eg/images/elite/9/issue9ar.pdf
No comments:
Post a Comment