Wednesday, April 29, 2020

مسلسل اختفاء (الوهم وحب التملُّك)





أولا: الفكرة .. لا شكَّ أن الفكرة الأصيلة لمسلسل "اختفاء" هى "عدالة السماء لسوف تُطَبَّقُ ولو طال بنا العمر". وكذلك "هل يحلُّ علينا التاريخ بما هو صحيح على الدوام أم يتم تشويهه أثناء تواتر السنوات؟" ولا يمكن أن ننسى "عصر الاستبداد ومراكز القوى فى مصر فى فترة الستينيات من القرن العشرين واستخدام عناصر المخابرات لنفوذهم من أجل غاياتهم وأهوائهم الشخصية وكم يكون ذلك مدمرًا"، هذا غير مسألة فى غاية الخطورة وهى "هل يبرر العشق المجنون القتل فى سبيل من نحب؟! وهل تتحقق السعادة فيما بعد؟". كلها أفكار محورية فى المسلسل وجميعها نال إعجابى الشديد واحترامى من الكاتب. وأظنها أفكار قطب إعجاب كل من يشاهدها.
ثانيا: الحبكة الدرامية: تنقسمُ الحكاية إلى محورين أساسيين: "شريف عفيفى الصحفى الروائى -هشام سليم- الذى يسعى بشق الأنفس لنشر روايته التى تفضح أحد أعلام ريادة الأعمال "سليمان عبد الدائم". فقد اتهمه بارتكابِ جريمة قتل منذ خمسين سنة. وزوجته فريدة -نيللى كريم- أستاذة الأدب الروسى فى جامعة القاهرة التى عاشت معه قصة حب كادت أن تفنى أمام معوقات الحياة واليأس، وهى شبيهة ببطلة المحور الثانى للمسلسل مما يضعها فى مأزق كبير. والمحور الثانى عام 1968 بالتحديد، مع "نسيمة سوفاليان -نيللى كريم أيضا-، وهى الأرمينية التى أحبت تراب مصر وعاشت عليها طيلة عمرها ولم تشأ العودة إلى موطنها الأصل مع أهلها وبقت تحيا للحرية. أحبت الرسام المغمور نادر الرفاعى -محمد علاء- وقصتهما تكادُ توازي غرام روميو لجولييت. هذه القصَّةُ التى أربكها سليمان عبد الدايم -محمد ممدوح- إلى حد الدمار.
ثالثًا: الأداء: أرى -عن نفسى- أن نيللى كريم -فى كلا الدورين وخاصة فى دور نسيمة سوفاليان- قد استحقت وعن جدارة وساماً. وهذا بالمقارنة بأداء العديد من الممثلات الأخريات كما دينا الشربينى مثلا فى مسلسل مليكة أو نور فى مسلسل رحيم أو يسرا اللوزى فى مسلسل بالحجم العائلى. نيللى أثبتت أنها قادرة على لعب العديد من الأدوار واستغلال طاقاتها فى مساحات مختلفة .. هذه المرَّة، جاءَتْ بهذا الشعر الأشقر القصير، وحذاء أسود ذي خطٍ فضي من الخلف تتهادَى به كما الدمية الوسيمة. هذه المرَّة، جاءَتْ عاشقةً ضاع معشوقها فى وسط حب التملُّكِ. أتَتْ ترسمُ تطور شخصيةٍ من شدَّةِ الحرية والحياة، إلى شدَّةِ القيدِ والموت. ماتَتْ نسيمةٌ سوفاليان تدريجياً حتى وإن لم تكنْ فَنَتْ جسدياً. ونيللي رسَّمَتْ حدودها ترسيماً.
مما لا ريب فيه أن محمد ممدوح قد تفوق على نفسه، فهو يقدر على إرسال القشعريرة فى الأبدان بمجرد نظرة شرسة. وكذلك أن يرسل الضحكة من خلال نكات بسيط منه. إنُّه يطرحُ علينا سؤالاً من خلال هذه الشخصية عجيبة الشأن: أنَّى للمرءِ أن يحيكَ وهماً شديد الاتساع ويعيش فيه لمدَّةٍ تزيدُ عن الخمسين عاماً دونَ أن يهلَكَ؟ فذكاء سليمان عبد الدايم قد وَهَبَهُ ملكةً، ألا وهي "اختلاق الوهم والمحيى فيه". اختلق الكذبة الأولى، وهي أنَّ نسيمة سوفليان تعشقه لولا وجود زوجها "نادر". والكذبة الثانية، ألا وهي "نسيمة سعيدةٌ معي، لكنَّها مرهقةٌ بعض الشىء"، والكذبة الثالثة، ألا وهي "نسيمة مَاتتْ وهي تحبُّني .. نسيمة ماتَتْ وسأبقى مخلصاً لها ديني ما حييتُ"، والكذبة الرابعة، ألا وهي "فريدةُ هي نسيمة وينبغي التفريق بينها وبين زوجها لتكونَ لي". وفى النهاية، جاءَتْ الحقيقة بوصول هذه المرأة العجوز إليه وهو على فراش الموت، لتدكَّ له أكاذيبه كافةً على أمِّ رأسه. فيموتُ وهو يعلمُ أنهُ لم يصطنع إلا الهراء. وقد كانَتْ عيشته تلك (التي تعجُّ بالأوهام) هي خير عقابٍ إلهي على استغلاله التعسفي لسلطته فى تعذيب الآخرين.
المسلسل قد رفع الستار عن أداء ممثل رائع أراه مبدع وهو محمد علاء. كان رجلاً رقيقًا ووديعًا جدًا لينال تعاطف الكثيرين حقا. فى البداية، تبدو عليه شيم أصحاب الأفكار الماركسية والشيوعية التي انتشرت خلال فترة الستينيات من القرن العشرين. فهو هذا الرسَّام ذو الشعر الأشعث والسلسلة المحيطة بجيده، ومنزله فوضوي يعجُّ بالأسطواناتِ لموسيقات أجنبية. لكنْ مع توالي الأحداث، تتعرَّفُ على رجلٍ آية فى الخجلِ والحياء، والحبِّ البريء. لقد تآلف مع نسيمة وحاولَ أن يحيطها بسياجٍ من الحماية. فهذا المشهدُ الذي عرفاَ خلاله أنَّ منزلهما مراقبٌ كانَ خير دليل على ذلك. فجأة، استطاعَ أن يسحب المشاهِدَ معه وهو يقصصُ على امرأته حكايةٍ كي تنامِ بأمنٍ وبلا خوفٍ. حكى لها معاناته مع أبيه الذي لا يقدر موهبته. سردَ فى كلماتٍ وجيزة مخاوفه وآلامه وأحزانه. استطاعَ "محمد علاء" أن يخطط شخصية نادر الرفاعي باحترافٍ، لتجعل الجميع غير قادر إلا أن يتأثر معه ومع مآلاته النهائية.
رابعًا: الموسيقى: فى الوهلةِ الأولى، تتبدَّى روعة الموسيقى فى تتر المقدمة، والذي يبدأ بأنَّ أحدهم قد شغَّلَ مسجلةً، ثمَّ تتوالى الأحداث كأنَّها أسطورة وهمية غير حقيقية. تتلاحق المشاهد متقطعةً خلال هذه الدقائق القليلة لتعلنَ عن أنَّ القادمَ سيكون ملحمياً. ثمَّ تبدأ الحلقات مع موسيقى هي أشبه بالأوبرا منها إلى الموسيقى العادية. عنصرٌ أساسي من احتكامِ حبكة الرواية هي الموسيقى. فهي تعبقُ بالحنين إلى الماضي، وإلى العصور الغابرة حينما كانَتْ الأنثى أنثى، والرجل رجلاً.
فى الختام، كانت رحلة مشوقة هذه التى خضتها وأنا أعيش فى هذا المسلسل بلمحاته الإنسانية المتعددة. مسلسل أراه من أهم المسلسلات المصرية على الإطلاق. عذراً، وضعتُ بؤرة التركيز على الثلاثي "نسيمة وسليمان ونادر". فقد كانَ هذا الثلوث الشيطانِي مرعباً فى روعته، فى واقعيته، فى كآبته وفى قدرته على سحب البساط من جميع جوانب المسلسل الأخرى. هذا لا يقلل من قيمة باقي الحكاية. لكن هذا الجزء على وجه التحديد، هو الحلمُ بعينه. قلمَا يشهَدُ المرء على عملٍ قيِّمٍ يخلبُ الألباب. وهذا العمل خَلَبَ لُبِّي وقلبِي.


No comments:

Post a Comment