موت الأدب
الموت، ما هو الموت؟!
الموت هو انتزاع الروح عن الجسد. وهنا، لا يعوز الجسد إلا أن
يتحلل. إنُّه فقدان الجسد المادي لكل الأنيطة التي تربطُهُ بأرض العالم. وبالتالي،
فإنَّ ديدان الأرض تنخر عظامه، ويتحلل متحولاً إلى رفاتٍ بالية.
والحقُّ أنَّ الأدب بدوره يموتُ.
إنُّه يموتُ عندماَ تُنْتَزَعُ منه الروحُ انتزاعاً. يموتُ
عندما نقطِّرُ مقومات الحياة له. بل والأعجبُ أنُّه يموتُ أيضاً عندما نُفرِطُ فى
إعطائه الأسمدة والأملاح والمخصبات. إنُّه يهلكُ بمعنى أفضل. تبدو كلماتى مبهمة
شيئا ما. لكننى على يقين من إدراككم لمغزاى.
من أهم ما يميز الأدب عن غيره شيئان: أولهما هو العاطفة والخيال
الجامح الذى يكاد يصوِّرُ المشهد تصويرا صادقا حتى وإن افتقد الكاتب معاصرة هذا
المشهد. وثانيهما هو التركيب اللغوي للجملة المسطورة. تتكوُّن العبارة فى اللغة
العربية من فعل وفاعل ومفعول، إن كانَتْ الجملة "فعلية"، ومن مبتدأ وخبر
إن كانَتْ جملة "اسمية". ولا ضررَ من إضفاءِ بعض النكهات الجمالية
(محسنات بديعية أو استعارات مكنية/تصريحية أو كنايات) كى يصير ما نسطره أدبا لا
حقيقة علمية نضعها بتجريد لا جمال به.
ومن ثمَّ، فإذا خلا النص من العاطفة والخيال، فلا أدبا. كذلك،
إذا اختمَّتْ الجملةُ بعناصرها أو تاهت
عنها عناصرها، إذًا لا أدباً أيضاً.
فالجملة العربية بالضبط كمعادلة حسابية بها مجهولات "Unknowns". وهنا
أهدف من لفظة "المجهول" فى المجال الأدبي: الكلمة الصعبة أو المجهولة أو
التى لم تطرق أعيننا أبدا. عند وضع مجهول واحد فى المعادلة الرياضية، يسهل علينا الإيتان به. عند وضع اثنين، يبقى لنا المجال شاسعاً أيضاً. أما إذا زاد العدَدُ واتسع، تهلهلت المسألة أمام المحاسب
الطبيعى، وتعسرت الإجابة.
وبدورها الجملة الأدبية، إذا ارتفع مؤشر المجهولات، فإن هذا لا
يؤدى إلا إلى هلهلتها. ومن ثم، يتغاضى البعض عن فهمها تماما. هذا على الرغمِ من أن
لو تجردَتْ العبارة مما يغلظها من هذه الألفاظ العتيدة، لظهر أنَّ فحواها بسيط. بل
لقد ذكر "يحيى حقِّي" فى إحدى مقالاته أنَّ الأدب الجاهلي كانَ كالقشرة
الصلدة، التي ما إن تتفتت حتى يتضح أنْ جوهرها بالٍ وبلا معنى.
لا قصد لى أبدا أن البعد عن غير المألوف من المرادفات هو الحل
لإخراج الأدب من برزخه المبكر. ولا أجادل بتاتا خلوَّ الجملة من أى كلمة قوية تنشط
الذهن إنما هو ضرب لإفتار اللغة أشد. إنما
أقصد أن نتحرى الوسطية.
لغة الضاد مكتظة بالكلمات التى لو لُقِنَتْ على مسامع الخلق
كافة، لكفتهم.
وواجبنا نحن الكُتَّاب العرب بوجه خاص والقراء بوجه عام، أن نتوخى* المعانى السليمة، فى المواضع السليمة*!
وواجبنا نحن الكُتَّاب العرب بوجه خاص والقراء بوجه عام، أن نتوخى* المعانى السليمة، فى المواضع السليمة*!
لا بأس من استعمال ما يشدد[1] فهمه، بكثرة وبغزارة.
لكن، لا حرج أيضا فى ترجمة، وفى تقليل معيار الغلظة فى الجملة الواحدة. من ناحية،
فإنَّ الترجمة وسيلةٌ للتعليم، وكأنَّ القطعة الأدبية درسٌ نتعلمُ من خلالها.
وبمرور الوقت تنتعش اللغة فى أفئدتنا. ومن ناحية أخرى، فمن المستحب استخدام لفظ
وحيد أو لفظين على أكثر تقدير "غير مألوفين" فى الجملة الواحدة، ليسهل
تكهن معناها.
لا حاجة لأن أتطرق إلى العاطفة فى الأدب. فما الرواية أو القصة
القصيرة أو المقال أو الشعر إلا عاطفة متكلمة. فإن فرغت القطعة الأدبية من العاطفة، إذًا فهى فرغت من روحها.
كما أن من أقومِ الطرق لتقديم العاطفة هى ترتيب الأفكار التى تحدُّ العاطفة قبل أن
تشط[2]. فلو طغت العاطفة عن
الأفكار، صار ما نكتتبه مجرد نواحاً لا معنى له وعاطفةً لا حدود لها يعيها العقل.
إذًا نستخرج مما ألقيت الآن أن الأدب عاطفةٌ وفكرٌ وجملةٌ
لغويةٌ. كلما التزمنا بالوسطية فى ثلاثتهم، خرج الأدب قوياً متيناً، ويحيى إلى أن
يأذنَ الله بأمر آخر.

No comments:
Post a Comment