Thursday, May 29, 2025

بنسيون عجب هانم، وانتشار الفكرة

 


رواية بنسيون عجب هانم،

بالمراجعة بعض الحرق،

.

.

هذه ليست الرواية الأولى التي تسنَّتْ لي قراءتها للمؤلفة العبقرية، مُنَى سلامَة، بل هي تقريبًا الرواية الرابعة بعدَ "عناق برائحة الورق"، و"كيغار" و"ثاني أكسيد الحب" ونصف رواية "القصر الأسود". حرصت على قراءتها بعدَ صدورها بقليلٍ إذ جذبني العنوان وأردت الغوص في حكاية أخرى من حكايات مُنَى.

للأسف تساقطت عن ذاكرتي الكثير من أحداث الرواية ولكن تبقَى الغاية النهائية راسخة في رأسي.

تستطيع مُنَى أن تُدخل القارىء في حالة من التشوق منذ البداية. هنَا كانَتْ شخصية "عيناء" التي هربَتْ من المصحة النفسية لتتزوَّجَ من "جمال" الذي وعدَها بالهرب ثمَّ الزواج والانعتاق من كراهية أبيها الغير مبررة لها. وبالفعل تنجح الخُطَّة ولكن قبلمَا يُتِمُّ المأذون الزيجة، تنهار البناية في الزلزال الأشهر، زلزال 1992 بالقاهرة. من الناحية الأخرى، فهناك الصحفية، أنهار التي تبتغي أنْ تُثبت ذاتها في وظيفتها وتبحث عن سبق صحفي في خضم أحداث الزلزال المُحتدمة، حيث تلتقي بهذا المجهول الناجي من العقار المُنهار. رجل شاب، يتذكر أنَّ في قلبه حبيبة ما، يُعاني من متلازمة تُعجزه عن رؤية ملامح الوجوه، فيراهم جميعًا "عجينًا" على حدِّ وصف مُنَى.

تناقشُ الرواية مسألة "الفكرة الخبيثة"، التي تتواجد في كل مكانٍ وكل زمانٍ بفعل الأحداث الجسام كالزلازل. لقد تخصصت الرواية في الحديث عن بعض الزلازل التي ضرَبَتْ مصر في شتَى عصورها. كانَ هذا الناجي المجهول -اعذروني لا أتذكر اسمه البتَّة- كلمَا غفَا، يجده في عصر ستضرب مصر فيها موجة زلزال، حيثُ يحب امرأة ما تكون سببًا في دماره.

امتلأت الرواية بالرموز والمعاني، فما نراه دومًا ليس الحقيقة. لم تكن الحقيقة أنَّ والد عيناء شخص يكرهها بلا مبرر، ولكن لأن بداخلها شيطانًا أعمَى لا يمكن السيطرة عليه. منذ أنجبها، والمصائب تتنزَّلُ على رأسه بدون أن يفقه السبب وراء ذلك. لدَى مُنَّى بالطبع القدرة على وصف الفاخورة التي كانَ يعمل بها. وصل الأمر بعيناء بعدَ الكثير من النبذ أن تؤمنَ أنَّ بداخلها إلهًا يُوحي إليها أنْ تعاقب جميع المتحرشين ببتر الأيادي. بالطبع لديها كل الحقِّ، ولكنها نسيت أن هناك قانونًا يحول دون تحويل المجتمع البشري إلى غابة تخضع معايير الثواب والعقاب للأهواء والنفوس.

من جهة أخرى، فما زالت الرواية تستعرض عواقب التحرش التي تمحي الأمان من صدر المرأة بشخصية أنهار التي لم تستطع تجاوز ليلة عيد مولدها العاشر، حيث تحرَّشَ بها قريبها. ثم كانَـت الطامة الأكبر، هو أنَّ هذا القريب الحنون لم يعرف يومًا ما جنَاه، فقد كانَ تحت تأثير المخدرات، بحيث استحال أن يتذكر ما فعله. عاشَتْ أنهار جحيمًا أعوامًا وأعوام قبل أنْ تكتشف سُخف الحياة بأنها حتى لا تستطيع معاقبة الجاني الذي لا يتذكر ما فعله. شعور سخيف.

أحببت علاقة أنهار وهي تعينُ المجهول على البحث عن هويته، ثم هوية حبيبته، هذه العلاقة البريئة النقية في الرواية. ثمَّ وصوله لعيناء التي تقيم في بنسيون عجب هانم. عجب هانم، القطة الأسطورية القادرة على الغَزْلِ، والتي تجبرها سيدة البنسيون على البقاء في غرفتها لتصنع لها فستانًا برأسين، على أن تتخلص منها إذا أكملته. وهكذا تعيش عجب على الغزل نهارًا ثم نقض الغزل ثم إعادته. أعترف أنَّ حكاية عجب نفسها كانَتْ من العُسر بحيث أنا بحاجة لقراءتها أكثر من مرة. في هذه الجزئية تناقشُ مُنَى أيضًا مسألة السحر بالماء حيثُ أنَّ سيدة البنسيون تتعاون مع والد عيناء لصُنع سحر أسود باستخدام الفُخار والماء (لم تلفتني هذه الجزئية كثيرًا بصراحة). 

الفكرة وانتشار الفكرة، حيث يمكن لفكرة خبيثة أن تسعى للقبول المجتمعي بكل طاقتها.

ثم كانَـت النهاية بالنسبة إليَّ الأجمل على الإطلاق، والأغرب على الإطلاق، باكتشاف الهوية الحقيقية لهذا المجهول، ولأنهار ولعيناء. تحدَّتْ مُنَى نفسها وكتبت عن عالم المستقبل حيث التجارب الدائمة التي يدخلها البشر فهم الأفكار وتقلباتها. لكم أحببتُ النهاية. لا أعرف إذا كانَ يحقُّ لي عرضها أم لا، ولكن كتبتُها في دفتري لنفسي كي لا أنساها.

لمُنَى هذه القدرة على الكتابة في كل عصر وتشبع القارىء منه إشباعًا، سواء العصر الجليدي حيث الحديث عن القبائل الأوروبية التي لم نلتقيها يومًا، أو العصر الإسلامي أو حتى تسعينيات القرن العشرين، وأخيرًا المستقبل البعيد.

رواية مُختلفة كعهدنَا بمُنى، ملأى بالألغاز والرموز بحيث قراءة واحدة لها لا تكفي البتة... البتة.

مبارك لفوزها بجائزة القلم الذهبي وأتطلع لمشاهدتها كفيلم عمَّا قريب، خاصة جزئية عجب هانم.

التقييم: 4/5

No comments:

Post a Comment