فى الواقع إنَّ هذا الكتاب لا يمكن الحُكم عليه بالقراءة لمرة واحدة وإنَّما لا بُدَّ من قراءته لأكثر من مرة لاجتناء ما بداخله من ثمار.
لا يمكن القول أنَّ الكتاب سوف يجيب جميع الأسئلة الإلحادية التي تراود من قرر التخلى عن دينه لصالح مادية العصر والعلم، ولكنه أجاب على الأسئلة التي راودَتْ دكتور مصطفى محمود ذاته حول الجسد والروح والتوازن العالمي والعدل الإلهي والمسيخ الدجال وغاية الدين والخلق.
لا يمكن أنْ نفصل الكتاب عن تجربة الكاتب الشخصية التي عاصرها معترفًا بأنُّهُ كانَ حينها يعاني من سطوة الغرب الماديين الذين قرروا الانتصار لوسيلة الوجود لا غايته. فالعلم -كمَا يقول الكتاب أخيرا وأقتنع أنا منذ البداية- ليس سوَى أداة ووسيلة لغاية أسمَى ألا وهي معرفة نواميس الكون وبالتالي معرفة عظمة الخالق وبالتالي نُجلُّهُ ونقدسه حق الإجلال والتقديس. لم يخلقنا الله لنعرف فى الأساس وإنما نحن نعرف لكي نصل إليه وحده هو.
أضاء الكتاب فى عقلي العديد والعديد من النقاط التي كانَتْ تراودني منذ زمن، وبلورها لي مثل العدل الإلهي، فبالفعل هذا الشعور الداخلي الذي لا نملك تحكمًا فيه بأنَّ العدل لا بُدَّ قائم، وأننا نعرف مواطن الظلم والاستبداد، وأنُّهُ لا بُدَّ من وجود عالم آخر يكون فيه العدل هو النهاية المشروعة لكل متألم.
والتوازن التام يلغي كلية نظرية "الصدفة"، إذ كيف تتكرر الصدف بهذه الطريقة المُحكمة رغم أن قانونها هو العشوائية الحتمية؟ أيضا تلغي نظرية "التطور التعقدي" إذ من أين يأتي التعقد بالأساس؟
أيضًا هناك مسألة البحث عن خالق الكون يلغي صفة الخلق عنه، وبالتالي فنحنُ نبحث فى الجانب الخاطىء. الخالق يعني أنُّهُ لم يُخلق وليس قبله سبب وبعده كل الأسباب. علينا أن ندرك أنَّ الله عز وجل لم يعطنا العلم الكافى لنعرف ما الموجود بعيدًا عن الكون، ولهذا ينبغي أن نفهم أن حدودنا هو هذا الكون والمطلوب منا هو الإذعان لخالق هذا الكون الذي خلقه بإحكامٍ ودقة لا متناهية.
أعجبني تحليل المفكر الأجنبي للمسيخ الدجال أننا نحيَا برفقته حاليا إذ يتمثل فى المادية الطاغية التي تغلَّبَتْ على عواطف ضعيفي العقول. استطاعَت المادية المجردة من أي فهمٍ أنْ تحطم معنويات الآخرين وتخلط عليهم الوسائل والغايات، فأصبح الاستهلاك هو الغاية. ولأن الاستهلاك لا متناهٍ ويخدم أصلا غاية سامية -لم نعد نعرفها فى ظل المادية- أصبح الوجود مستهلكًا يقضى على طاقة المرء ويوصل الغارق فيها إلى طرق مسدودة يشعر أن الخلاص منها يكون بالسُكر أو التخدير أو الانتحار. أجل، من يعلم، لعل هذا هو المسيخ الدجال بالفعل والذي فتنَ غالبية أفراد العالم للأسف.
وحدهم من يتعرفون على غاية الوجود الأسمى ألا وهي عبادة الله الواحد الأحد لنيل محبته، هم من يرتاحون فى هذا العالم المادي، يدركون أن للاستهلاك حدود ألا وهي أداء الغاية المطلوبة منها وهي التأمل فى الملكوت لمعرفة خالقه وتقدير قدراته والإذعان له بحرية اختيار.
مسألة الروح والتي لا يعلم سرَّها أحد، ارى دكتور مصطفى محمود قد عالجها بأسلوب سلس وجلعني أدرك شيئًا مُهمًا، وهو أنه طالما نحنُ ندرك الزمن ومضيِّهِ، فهذا يعني أننا خارجون عن إطاره حتى نستطيع أن نراه يمضى، وهذا يعني أنَّ الروح كائن متجاوز للزمان والمكان، وربما بالفعل أنَّ الموت ليس سوَى فناء الجسد الذي لم يعد يستطيع أنْ يحمل الروح، فيحررها لتطوف فى عالم آخر غير معلوم نسمِّيه فى الإسلام برزخًا. لا أحد يعرف شيئًا سوَى أنَّ هنالك حياة أخرى بعدَ الموت استمددناها من الأديان السماوية.
فى النهاية، لا يسعنِي سوى القول أنَّ دكتور مصطفى محمود مشكورًا -ولم يكن مجبرًا أبدًا على ذلك- قد أراد أن يقدم لنَا يد عون لترسيخ المبادىء الإيمانية فى أنفسنا من خلال استدعاء تجربة شديدة الحساسية على نفسه ألا وهي فترة إلحاده. فحتى لو لم يجب على جميع الأسئلة، وحتى لو كانت إجاباته مبتورة فى بعض الأحيان، ففى الحقيقة هو كانَ يطلعنَا على ما فكر فيه وأعاد له إيمانه، وينبغي لكل من يعاني من أزمة إيمانية أن يتخذ من هذا الكتاب نقطة بداية ثمَّ فحص كل عنصر فيه (الجسد/الروح/العدل الإلهي/التوازن...إلخ) على حدَا، وبإذن الله نهتدي جميعًا إلى سبيل الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد.

No comments:
Post a Comment